يعترض البعض على مقولة أنّ مستقبل لبنان سيتأثّر عميقاً بمصائر الكيانات الأخرى في الشرق الأوسط. لكنّ عدداً من المؤشّرات يؤكّد أنّ التأثّر حتميّ. وهل هناك دليل أبلغُ من المهمّة التي يتولّاها لبنان في القضاء على «داعش»!
يعتقد عدد من المحللين أنّ العالم يشهد خروجاً من «مرحلة داعش». فهل سيكون الخروج إلى مرحلة لا يتعملق فيها الإرهاب التكفيري؟ أم سيكون مجرّد انتقال من مرحلة إلى أخرى من الإرهاب، ستتّضح معالمها، مثلما حصل الانتقال مع انطلاق الربيع العربي عام 2011 من «مرحلة القاعدة» إلى «مرحلة داعش»؟
الهزائم الدراماتيكية التي تُصاب بها «داعش»، أينما كان في هذه الفترة، تبدو مثيرةً للجدل: كيف استطاعت «داعش» أن تجتاح الموصل في العراق خلال ساعات، ومناطق واسعة في سوريا خلال أسابيع، وأن تثير التوتّرات والهواجس في لبنان على مدى سنوات، فيما هي اليوم تتساقط كأوراق الخريف؟
في تقدير هؤلاء المحللين، أنّ هناك قوى عملاقة، إقليمية ودولية، ساهمت أو سَمحت أو غضَّت الطرْف عن ولادة «داعش» ونموّها، لمصالح وضرورات وأهداف مختلفة. وقد يكون من المبكر فَهمُ الصورة المعقّدة التي خلقت «وحش داعش». وسيكون ضرورياً انتظار مزيد من الوقت لنضوج المعطيات وظهورها.
القوى المتّهمة بدعم «داعش»، إقليمياً ودولياً، يقال إنها معروفة. فالجميع يتبادل التّهم في هذا الشأن. وقد يكون بعض الاتهامات صحيحاً بنسَب ومعايير مختلفة. مثلاً، السعوديون يتّهمون القطريين. لكنّ الإيرانيين يتهمون السعوديين والقطريين. فيما الرأي الراجح في الأوساط الحليفة للسعودية أنّ إيران تستفيد من «داعش» وتستثمرها، وربّما تساهم في رعايتها وإدارتها.
واليوم، في الحرب الشعواء بين المحور السعودي وقطر، تبدو الصورة سوريالية: قطر تتلقّى دعماً من إيران… وتركيا في آن معاً!
إذاً، لعبة «داعش» شديدة الإبهام والتعقيد. لكن الأرجح أنّ القرار بإنهاء هذا التنظيم قد صدر. وربّما يعني ذلك أنّ القوى التي أخرَجت المارد من القمقم ليكون في خدمتها فقَدت السيطرة عليه وربّما انقلبَ عليها. ولكن قد يعني أيضاً أنّ القوى التي خلقت «داعش» قرّرت إنهاءَها تلقائياً بعدما استنفد المهمات المطلوبة منها.
• ما هي مهمّات «داعش»؟
1 – تحويل «الربيع العربي» من عنوان ثوري حداثي إلى حربٍ همجية تستند إلى خلفية دينية، ما يؤدّي إلى شرذمة الكيانات الشرق أوسطية المتنوّعة طائفياً أو مذهبياً.
2 – إستكمال ما فعلته «القاعدة» لجهة دفعِ الدين الإسلامي إلى التصادم الديني والحضاري مع العالم.
3 – الدفع بالمجتمعات العربية إلى الرجعية والتخلّف، فيما قوى إقليمية أخرى، في مقدّمها إسرائيل، تستفيد من ذلك.
4 – قتلُ الروح الوطنية في الكيانات الشرق أوسطية لمصلحة العصبية الدينية العمياء. وهل هناك ما يَخدم أهدافَ إسرائيل بقتل الروح القومية العربية (ولو وهميّة) والروح الوطنية الفلسطينية، وتذويبها في أطرٍ عصبية دينية عمياء، أكثر من «داعش»؟
فمنذ انطلاق «الربيع العربي»، وفيما العرب ينخرطون في الحروب والفِتن المبنية على أسُس دينية ومذهبية، تعيش إسرائيل عصرَها الذهبي فلسطينياً: لا انتفاضات ولا مفاوضات، لأنّ العرب منشغلون بأنفسهم، والقضية الفلسطينية في أسوأ أيامها.
هناك كثيرون استفادوا من «داعش» واستثمروها، حتى المصنَّفون في خانة خصومها، وحتى الأنظمة التي ادَّعَت قتالها. وفي الخلاصة، يُستَنتَج أنّ غالبية ضحايا «داعش» هم من المسلمين العرب السنّة، لا سواهم، ومن المسيحيين الأوروبّيين، وتحديداً أوروبا المتعاطفة مع القضايا العربية. وأمّا الآخرون، فلم «يستحقّوا» شرف أن تقاتلهم «داعش»!
البعض يعتقد أنّ إنهاء «داعش» لم يصبح قراراً حقيقياً حازماً إلّا مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب. فهل كان يتمّ التعاطي مع التنظيم بمنطق المهادنة المقصودة في مراحل سابقة، ما أتاح له النموَّ والتوسّع؟
في أيّ حال، السؤال المطروح هو: أيّ شرق أوسط جديد سيولد بعد «داعش»؟ وهل ستقتضي مصلحة بعض القوى، مجدّداً، خلقَ «خليفة لداعش» يجري توظيفها في أحداث وتحوّلات جديدة؟ أم سيكون الباب مفتوحاً للحداثة والديموقراطية في الكيانات الشرق أوسطية؟
هذه الكيانات تخوض تجربةً دقيقة في هذا الشأن. وأمّا لبنان فتسارعت فيه الإنجازات النوعية التي يسجّلها الجيش والقوى الأمنية، منذ أشهر، في ملفّ الإرهاب، من عرسال إلى عين الحلوة وسواهما. وبدت هذه الإنجازات حلقات مترابطة ضمن خطة واضحة وثابتة تتجاوز بأبعادها حدود لبنان.
فهناك «حصة لبنانية» لا بدّ منها في عملية القضاء على تنظيم «داعش» وأخواته، الجارية في العراق وسوريا ومصر وبلدان أخرى في المنطقة، والتي يبدو أنّها ستُنهي المرحلة المسمّاة، «مرحلة داعش».
وفي هذه المعركة، يَحظى لبنان بدعم دولي استثنائي ومباشر، لا بالخبراء المقيمين والخبرات وكمّيات السلاح والذخائر وأنواعها فحسب، بل هو يرتبط مباشرةً بغرفة العمليات الخاصة بمواجهة الإرهاب، ما يتيح إنجازات لبنانية في هذه المعركة المفتوحة.
ومن هذه الزاوية يبدو الحرص الدولي، والأميركي تحديداً، على دور لبنان. فالمطلوب بقاء لبنان تحت الحماية حتى انتهاء النزاع في الشرق الأوسط. وهناك من يعتقد أنّ لبنان سيحصد ثمار هذا الدعم سياسياً واقتصادياً ومالياً. وفي السياق، لا يمكن القبول بالتفلّت الحاصل في ملف النازحين، على مختلف المستويات.
البعض يعتقد أنّ لبنان سيبقى الطفلَ المدلّل في الشرق الأوسط، وأنّ استقراره أولوية لقوى دولية فاعلة، وهو باقٍ تحت الرعاية بل السيطرة، ولن يفلت. لكن المهم هو أن ينقضيَ النزاع الشرق أوسطي سريعاً، لكي يستطيع لبنان الصمود حتى تنجلي نهاية النفق.