قبل خمسة أعوام، في أول تموز 2019، صدر العدد الأول من «نداء الوطن». كانت تجرية جديدة ومغامرة في زمن قلّ فيه عدد الصحف وتهاوت صروح كبيرة شكّلت علامات مضيئة في تاريخ لبنان. ليس مستحيلاً أن تبقى «نداء الوطن» جريدة ورقية. وليس عيباً أن تبحث عن تمويل لأنّ كل الصحف عاشت وتعيش على مثل هذا التمويل، وهي تبقى حاجة لمن يريد أن تبقى هناك قضية من أجل أن يبقى لبنان، الذي عاش زمن الصحافة الجميل وكان رئة العالم العربي وعقله وفكره وأقلامه. أزمة «نداء الوطن» هي أزمة صحافة لبنان والعالم العربي وهي أزمة وطن قبل أي شيء آخر.
كان جورج شامي صحافياً في جريدة «الحياة» في بداية الخمسينات في الفترة الذهبية للصحافة اللبنانية. كانت الجريدة تحتاج إلى صورة لتضعها على الصفحة الأولى ولم تكن قد حصلت عليها. قبيل الساعة الثانية فجراً عندما كانت تخرج الطبعة الأولى من جريدة «النهار» من المطبعة كان ينتظر أمام المطبعة. اشترى عدداً من الجريدة وعاد مسرعاً إلى «الحياة» قُصّت الصورة وتصدّرت الصفحة الأولى من الجريدة.
كان شامي أيضاً في مكاتب «الحياة» عندما واجهت عملية «الصف» مشكلة من نوع آخر. كان مقال كامل مروة، صاحب الجريدة ومؤسسها، أطول من المساحة المخصّصة له على الصفحة الأولى. لم يجرؤ أحد على الإقتطاع منه بينما كان الإتصال متعذراً بكاتب المقال. أخذ شامي المبادرة واختصر من المقال. في اليوم التالي تنبّه مروة لما حصل. سأل عمن اختصر مقاله. قالوا له إنّه جورج شامي. أرسل بطلبه. خاف شامي وتوقع أن يطرده. ولكنه لما حضر أمامه طلب منه مروة أن ينتقل إلى وظيفة أعلى سكرتيراً للتحرير.
منارات الزمن الجميل
تلك كانت علامة من علامات النهضة في صحافة لبنان التي كانت تختصر تقريباً كل الصحافة في العالم العربي. ذلك العهد الذهبي الذي عاشته تلك الصحافة في «ذلك الوطن» بدأ ينقضي رويداً رويداً حين تهاوت تباعاً صروح إعلامية وصحافية شكّلت منارات في تاريخ الوطن المائل إلى الخراب. كانت الصحف اللبنانية تتسابق على الخبر وتصنع الأحداث وتغطّيها، ولكنها كانت تتسابق أيضاً على اقتناص الصحافيين والكتاب الناجحين والمتفوقين. أقلام كثيرة ذهبت إلى الصحافة من بين الكتّاب المشهورين. كانت الصحافة وجهاً آخر من وجوه الكتابة والإبداع.
لم تكن صحافة لبنان تبحث فقط عن الإثارة وعن الريادة. بل عن الإنتشار في كل العالم العربي. هكذا مثلاً كانت «الحياة» و»النهار» وصحف لبنانية أخرى، فجر كل يوم، تستقلّ الطائرات المتوجّهة من مطار بيروت إلى كل العواصم العربية. إلى دمشق وبغداد والقاهرة والخرطوم والرياض وطرابلس الغرب والمغرب والجزائر… كان بالإمكان قراءة صحيفة لبنانية في بيروت عند الصباح وقراءتها في تلك العواصم عند الظهر. وكانت الصحافة اللبنانية تغطي أخبار كل العالم العربي والإنقلابات والصراعات، وكانت جزءاً من تلك الصرعات ووجهاً آخر لها بسبب تنوعها وانتماءاتها وخلفياتها.
وكان الرئيس المصري جمال عبد الناصر ينتظر وصول طائرة خاصة من بيروت يومياً لكي يطّلع على ما كتبته تلك الصحف مباشرة أو من خلال تقارير يعدّونها له. ولم يكن من خارج هذا السياق إصدار قرارات بقتل صحافيين عام 1958 هما فؤاد حداد وغندور كرم، وكان الأخير يكتب زاويتين في جريدتي «النهار» و»البناء» مادتهما كلها ضد سورية ومصر، بينما كان الأول يكتب زاوية في جريدة «العمل» الكتائبية يوقعها باسم (أبو الحن). فقد كتب مرّة بمناسبة انتخاب شارل مالك لرئاسة الجمعية العمومية للأمم المتحدة: إن المائة والسبعة والخمسين صوتاً التي حصل عليها مالك في انتخابات الجمعية العمومية هي بمثابة مائة وسبعة وخمسين بصقة في وجه جمال عبد الناصر. عندما زار عبد الناصر دمشق بعد إعلان الوحدة استقبل وفداً بيروتياً كان من بين أعضائه المتّهم بخطف فؤاد حداد وقتله. ولم تقتصر المسألة عند هذا الحد بل وصلت إلى اغتيال كامل مروة في مكتبه في 16 أيار 1966 بعد اتهامه بأنه حوّل جريدته «الحياة» إلى مركز للهجوم على عبد الناصر وانتقاد سياسته، والتبعية للمملكة العربية السعودية. قبل اغتياله كان كامل مروة حاضراً ومؤثراً في السياسة العربية وكانت «الحياة» أهم صحيفة في العالم العربي.
سجِّل يا تاريخ
من العلامات المضيئة في تاريخ الصحافة اللبنانية أن جريدة «النهار» التي أسّسها جبران تويني الجدّ عام 1933 شكّلت نموذجاً لما يجب أن تكون عليه الصحف والمؤسسات الإعلامية. ليس على صعيد الحضور اليومي في الخبر والتغطية بل من خلال تأمين الحضور التاريخي المستمر منذ ذلك التاريخ، لأنها تحوّلت، كما غيرها من صحف تلك المرحلة التي جاهدت وعملت وكافحت، إلى سجل تاريخي للأحداث. ومن العلامات المضيئة أنه كان بإمكان صحافي وسياسي كبير كجبران تويني أن يمنح صحافياً صاعداً اسمه كامل مروة، عمل معه في «النهار»، أن يمنحه عام 1946 مكتباً في مبنى جريدته لكي يُصدر منه جريدته «الحياة» التي ستتحوّل بعد فترة إلى منافس لـ»النهار».
عندما توفي جبران تويني عام 1948 كان ابنه غسان في الولايات المتحدة الأميركية يدرس ويراسل النهار من الأمم المتحدة. وقد لعب كامل مروة دوراً في إقناعه بالعودة إلى لبنان لكي يتولّى رئاسة تحرير «النهار» وإكمال المسيرة. لم تكن مسيرة جبران تويني مجرد إرث يحمله ابنه غسان، ولكنّها كانت رسالة أكبر من وراثة دور وشخص وأكبر من مجرد رئاسة تحرير. كانت مهمة على قياس وطن وكانت بداية لعمل دائم لا يمكن ولا يجب أن يتوقّف. تلك الصحف في تلك الأيام كانت كأنّها دقات قلب الوطن وشرايين الأحداث. عندما بدأت تتهاوى تباعاً بدا وكأن الذاكرة اللبنانية بدأت تتدمّر وتنهار، وكأنّ الوطن يعيش في حالة موت سريري بلا ذاكرة وبلا أيام.
عصر ذهبي ينهار
إلى جانب «النهار» المؤسسة والشركة المتعددة الإهتمامات والإتجاهات، من الطباعة إلى الأرشيف والإعلانات، قامت صروح إعلامية وصحافية كبرى. أسّس كامل مروة «دار الحياة» وبنى مقراً لها في شارع الغلغول. وأسّس سعيد فريحة «دار الصياد». وكانت الـ»أوريان لو جور» بالفرنسية و»الدايلي ستار» و»لو ماتان» اللتان أصدرهما كامل مروة. كانت صحافة بيروت قصر العالم العربي الذهبي وبرجه العاجي. وعلى متنها نشأت مؤسسات طباعة وشركات إعلان وتوزيع للصحف والمطبوعات، ومجلات وملاحق، تسابقت على الخبر وعلى التحقيقات والدراسات. كان يمكن أن يتخطّى عدد الصحف المطبوعة والموزعة في لبنان المئة ألف نسخة يومياً. ولكن ذلك العصرالذهبي أخذ يتهاوى.
هكذا أقفلت مثلا «دار ألف ليلة وليلة» بعد وفاة نقيب المحررين ملحم كرم عام 2008، الذي كان من أشطر من تمكّن من الحصول على مساعدات لتأمين استمرار نقابة المحررين وجريدة «البيرق» والمجلات الصادرة عن الدار، من «الحوادث» التي اشتراها بعد اغتيال مؤسّسها سليم اللوزي، إلى «الماندي مورنينغ» والـ»لا ريفو دو ليبان»… وهكذا أيضاً طويت صفحات جريدة «الحياة» في أول تموز 2018 وأقفلت مكاتبها في بيروت.
تلك نماذج عن أمبراطوريات إعلامية تهاوت وسقطت بسبب المشاكل المادية وتبدّل الظروف الدولية وبحكم التطورات التكنولوجية التي جعلت من الصحافة الورقية مهنة في طريق الزوال، في ظل تحديات كبيرة ليست قادرة على مواجهتها والصمود في وجهها. وهكذا انتهت تجربة دار الصياد عام 2018 أيضاً. حافظ أبناء المؤسس سعيد فريحة على الدار بعد وفاته عام 1978، ولكنهم رزحوا تحت عبء العمر ومتاعب المهنة، وأقفلوا الدار ومكاتبها التي باتت ذكرى من الماضي ترعرت وعاشت فيها، كما في غيرها من المؤسسات الأخرى، أقلام وبشر مرّت عليهم الأيام وهم يكبرون في مكاتبهم من دون أن ينتبهوا إلى مرور الزمن، ومن دون أن يكترثوا للأزمات الواصلة لأنّهم ما كان يمكن أن يكونوا أي شيء آخر أو أن يبحثوا عن مهنة أخرى، وهم لم يعرفوا إلا الكتابة مهنة لهم.
«المستقبل» و»السفير»
هكذا انتهت أيضاً في شباط 2019 تجربة جريدة «المستقبل» الورقية التي أطلقها الرئيس رفيق الحريري في حزيران 1999. وهي صورة عن مشروع صحافي وسياسي مرتبط بحضور رئيس الحكومة السابق الذي اغتيل في 14 شباط 2005، ثم بالرئيس سعد الحريري، كغيرها من مشاريع صحافية كبرى كانت تؤدي أدواراً سياسية ومهمات محددة. ضمن هذا السياق مثلا كانت تجربة جريدة «السفير» التي أطلقها طلال سلمان عام 1974 وأقفلها عام 2016. وهي وإن كانت تأسّست بأموال ليبية لتنافس جريدة «النهار» وغيرها من الصحف التي كانت تعتبر صحافة اليمين اللبناني أو «الغرب الإمبريالي»، فقد شكلت نواة لمؤسسة صحافية رائدة استفادت من المنافسة لتكمل صورة المشهد السياسي مع الصحف الأخرى ولتحتضن أقلاماً وأسماء تحوّلت إلى أَعلام في عالم الصحافة لم تنطوِ مع انطواء الجريدة، وإن كانت بحثت عن ملاذات آمنة لم تعد آمنة.
إلي أين؟
أزمة «نداء الوطن» لا تنفصل عن أزمة باقي الصحف التي لا تزال تصدر ورقياً وتعاني. من «النهار» إلى «اللواء» و»الديار» و»الشرق» و»الجمهورية»، و»الأخبار» التي تتمتّع بدعم مالي مريح. صحيح أنّ «نداء الوطن» عادت إلى الصدور لخدمة مشروع سياسي لبناني وعلى أساس أنها جريدة قضية لا يجب أن تموت، ولكنّها من أجل خدمة هذه القضية يجب أن تبقى. إن وقف إصدار الجريدة ورقياً سيؤثّر على ما تبقى من صحف أخرى تنازع للبقاء وسيؤثّر أيضاً على ما تبقى من مطابع وشركات توزيع. لعلّ من مسؤولية الدولة، لو كان هناك دولة، أن تحافظ على ذاكرات الأيام وسجلات التاريخ ويوميات الأحداث. ولعلّ من واجبات من لا يزال يؤمن بأنّ هناك وطناً يجب أن يناضل لبقائه على صورته ومثاله، أن يسعى أيضاً من أجل أن تبقى «نداء الوطن» وغيرها حدائق تنمو فيها الأيام، لا مقابر ومدافن للأقلام.