الأكثر تفاؤلاً لا يتوقّعون شيئاً من الحوار، لا «سلّة» رئيس مجلس النواب نبيه برّي ولا حتى أجزاءَ منها. ولكن، في المقابل، الأكثر تشاؤماً لا يتوقّعون أن ينتهي الحوار بانفجار سياسي أو أمني. إنّه اللغز اللبناني بين اللاحلّ واللاإنفجار، أي بين اللاموت واللاحياة!
لن تَظهر ملامح حلٍّ مستدام في لبنان قبل تبلوُر الحلّ المستدام في سوريا. ولا تسوية مرحلية في لبنان قبل تبَلور التسوية المرحلية في سوريا. ولأن لا وقت في سوريا للتسويات أو الحلول حتى إشعار آخر، بل الوقت للحروب، فالرهان على أيّ من المخارج السياسية في لبنان ليس في محلّه… حتى إشعار آخر.
فتسوية الطائف 1989 وتسوية 2005 وتسوية الدوحة 2008 جرت كلّها قبل أن تندلعَ الحرب في سوريا. أمّا اليوم، فلبنان متورّط سياسياً واقتصادياً واجتماعياً في النزاع السوري، ولا هدفَ له حاليّاً إلّا البحث عن سبيل إلى منعِ انتقال الحرب السوريّة وانعكاساتها إليه، لا أكثر.
والأفرقاء المشاركون اليوم في طاولة الحوار ليسوا منخدعين ببلوغ «السلّة» المرتجاة، لكنّهم جميعاً مضطرّون إلى حوار الحدّ الأدنى، الذي يُتيح تقطيعَ المرحلة، لا بالتسويات بل بمنع الانفجار وتجنُّب سقوط السقف على الجميع.
وما يُثير القلقَ هو التحذيرات التي دأبَت أوساط وزارية معنية، في الأسابيع الأخيرة، على إبلاغ القوى السياسية بها، وهي تتضمَّن إشارات إلى أنّ الأوضاع في لبنان تتّجه إلى الأسوأ أكثرَ فأكثر، نتيجة التعثّر السياسي وتعطيل المؤسسات أو إفراغها، والإرباك إزاءَ كلّ الملفات الساخنة.
وتتداول هذه الأوساط معلومات خطيرة جداً عن حجم الكارثة التي يقترب منها لبنان إذا استمرّ تفاقمُ الأزمة على مختلف المستويات ولم يسارع الجميع إلى تطويقها، والتي قد تصل بالبلد إلى الانهيار.
ففي ظلّ تعطيل المؤسسات، يقف لبنان على ركيزتين: عسكرية – أمنية يوفّرها الجيش، وماليّة – اقتصادية يوفّرها مصرف لبنان. ولذلك، يتحرّك الجميع في شكل طارئ لسَدّ الثغرات التي قد تعتري الوضعَين العسكري والمالي، ما يهدّد بوقوع المحظور:
1- على المستوى العسكري، سيُصار إلى حلّ مسألة التمديد لقائد الجيش العماد جان قهوجي بلا ضجيج سياسي، فيما يتلقّى الجيش وقائده دعماً أميركياً وأوروبّياً واضحاً وحاسماً بالسلاح والذخائر والمعلومات، تترجمه العمليات النوعية التي ينفّذها في بقعة عرسال – القاع – رأس بعلبك في مواجهة الإرهاب.
2- على المستوى المالي، تلقّى لبنان إشارات جديدة من المؤسسات الدولية بضرورة إقرار عددٍ مِن التشريعات والتزام القوانين والقواعد الدولية في مجالات الشفافية وتبادُل المعلومات الضريبية، على غرار ما فعلَ في كانون الأوّل الفائت، عندما تمّ التوافق الداخلي على عقدِ المجلس النيابي جلساتٍ تشريعية وإمرار تشريعات كان مطلوباً إقرارُها دولياً، شرطاً لاستمرار دعم لبنان.
إذاً، مِن شأن جلسات الحوار التي يرعاها بري بدءاً من مطلع آب الجاري، أن تمرِّر بعضَ الملفات الملحّة بالتوافق، خصوصاً مع اقتراب المجلس النيابي من العقد التشريعي العادي الثاني (أوّل ثلثاء بعد 15 تشرين الأوّل). ولن يتمّ إنجاز أيّ تسوية في ملفَّي رئاسة الجمهورية وقانون الانتخاب، لكن مجرّد نجاح برّي في عقدِ طاولة الحوار يكرِّسه راعياً لا بديل منه لأيّ تسوية، عندما يأتي أوان التسويات.
ولذلك، يقتنع الجميع بأنّ انعدام التوصّل إلى تسويات سياسية في لبنان خلال الخريف المقبل سيعني أن لا حلول متوقَّعة قبل عامٍ كامل على الأقلّ. وبهذا يمكن تفسير ما قاله الوزير الياس بو صعب من أنّ المعطيات التي ستتحكّم بلبنان في المرحلة المقبلة ستكون أشدَّ تعقيداً من تلك القائمة حاليّاً.
على الأرجح، سيترقّب لبنان تبَلورَ الصورة في سوريا، وهذا الترقّب سيَطول بسبب عدم نضوج الوضع والتعقيدات الإقليمية والدولية المتشابكة هناك.
وساهمَ في التعقيد خروج الرئيس باراك أوباما من اللعبة باكراً، وانتظار انتخاب الرئيس الأميركي العتيد وانطلاقه على رأس إدارته في رسم سياسة خارجية جديدة. وهذا الأمر يَستغرق تقريباً مجملَ السَنة الأولى من الولاية الرئاسية الأميركية.
وفي اعتقاد بعض المطّلعين أنّ الولايات المتحدة ليست عاجزةً عن فرضِ انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان، ولو من فئة «الوسطيّين» المعروفة، وكان ممكناً أن تساومَ طهران على هذه الخطوة في الأعوام الثلاثة الفائتة وتتمكّن من إنهاء الفراغ الرئاسي، لكنّها لم تكن متحمّسة في هذا المجال لأسباب عدة، ويبدو أنّها لم تجِد في الفراغ مشكلةً خطرة ما دامَ الدستور يوفّر البديل، وما دام الفراغ لا يهدّد لبنان بالانهيار.
فالخطّ الأحمر بالنسبة إلى واشنطن هو انهيار «الستاتيكو» اللبناني، لأنّ ذلك سيخلق معطيات مفاجئة وعناصر يَصعب ضبطها، قد تخلّ بالمعادلات في الشرق الأوسط ككل:
1- سيهدّد الانهيار بوقوع فتنة مذهبية مفتوحة يَصعب ضبط مفاعيلها.
2- سيؤدّي إلى حال من الفوضى تشكّل خطراً على حدود إسرائيل الشمالية، سواء سيطرَ «حزب الله» على السلطة أو تمكّنَت التنظيمات الإرهابية من تحويل لبنان «ساحة جهاد» لها.
3- هناك حِرصٌ دولي في الوقت الحاضر على أن يبقى لبنان واحةً آمنة جاذبة للّاجئين السوريين والفلسطينيين. فهل سيتحمّل الغرب خروجَ نحو مليونَي نازح من لبنان ليزيدوا الضغط على أوروبّا التي تعاني الإرهاب؟
وهكذا، لا يبدو أنّ لبنان سيمضي خطوةً جديدة قبل أن تتحدَّد الخطوات في سوريا. وفي الانتظار، يقف عند الخط الفاصل بين طموحات تسوية لا تتحقّق وهواجس انفجار ممنوع، أي متأرجحاً ما بين الموت والحياة.