Site icon IMLebanon

لبنان يرفع «العشرة» على الراحات.. الأزلية  

حداد عامّ لفّ لبنان وغطّى سماءه، حُزناً على جنود رخصت دماؤهم أمام عظمة واجبهم. جنود عشرة كانوا خير من ثبّت شعار «شرف تضحية وفاء». كانوا الشرف لحظة وقوفهم في وجه الإرهاب مانعين إياه من تدنيس تراب أرض دافعوا عنها حتى نفاد آخر رصاصة من جعبهم. كانوا التضحية بكل تفاصيلها ومعانيها، عندما انبرى كل فرد منهم، للدفاع عن بقيّة زملائه، فكان أن كُتب لهم مع بقيّة من رفاقهم العسكريين الشهداء والأحياء، الوفاء بالعهد والقسم بعد أن قاموا بواجبهم كاملا ًحفاظاً على علم بلادهم وذوداً عن وطنهم لبنان..مرفوعين على الراحات.. الأزلية.

لا يُمكن ليوم أمس أن يمر مرور الكرام في المشهد اللبناني ولا يُمكن أن يُمحى من ذاكرة وطن هبّ بكل أطيافه لوداع ثلّة من الأبطال الذين كانوا على موعد مع شهادة لا تليق إلا بهم وبأمثالهم ولا يستحقها إلا من حمل ملامحهم وسماتهم وأسماءهم. أمس كان يوم عرس وطني بامتياز عبّرت فيه المواقف السياسية والشعبية، عن إنتماء لقضية لا يُمكن إلا أن تنتصر في مواجهة كل من يتربّص شرّاً بوطن يُمكن أن تُختصر بطولاته وإنجازاته وإنتصاراته، بدماء شهداء كانوا بالأمس هم القادة والعنوان وهم الزمان والمكان. شهداء اختصروا وطناً بمذاهبه وطوائفه، اختصروا وجعاً وفرحاً، فتجلىّ وداعهم بأبهى صوره وأجمل محطاته، فكانوا للوصية حافظين،»كلنا للوطن».

رايات، يافطات، أعلام وصور وكلمات، كلّها زيّنت لبنان من أقصاه إلى أقصاه ومن أحلامه إلى يقظته. عرس جماعي لا يُشبه بمرّه وحلوه أي عرس آخر. عرسان حُملت نعوشهم على الأكتاف وسط الزغاريد ونثر الورود والأرز. كانت الدموع تُسابق مواعيد الوصول والقلوب تتسارع دقاتها وكأنها تعزف لحن وداع يتمنون لو تطول لحظاته أو تُبطئ خطواته ريثما يتسنّى للجميع، اشباع نظراتهم من الأحبّة والأبناء والآباء. دموع لم تكن محصورة بجهة، ولا الأحزان كانت مشمولة بفئة. الأهل كما الجيران والمسؤول كما المواطن، جميعهم ظهرت على ملامحهم علامات الحزن والغضب والأسف والتعاطف، قولاً وفعلاً. وكم من مرّة رصدت عدسات الكاميرات، دموع شخصيات كانت تُذرف تأثراً وحزناً وتعاطفاً مع مشهد أبكى القريب والبعيد، وخلفه توحّدت عناوين ونشرات أخبار، عبّرت في كل محطة منها عن لبنان الرسمي والشعبي.

في ظل العرس الوطني الجامع أمس، لا بد من استعادة محطات ولو جزئية من سيرة جيش سطّر تاريخ لبنان بانتصارات ستُخلّد في ضمير كل لبناني وستُزهر في جرود القاع ورأس بعلبك، وروداً ملونة بلون أحلام الشهداء، وسياج معمد بدمائهم لا يُمكن تجاوزه إلا تحت ضربات السيوف. وبين البارز والأبرز، تظهر قوّة الفعل في أن الجيش تمكّن في غضون فترة وجيزة، من تثبيت مرحلة جديدة في تاريخ لبنان وأضاف اليها جملة إنتصارات حملها إلى شعب منحه ثقته لحظة اعلانه الحرب على الإرهاب. انتصر الجيش للشرعية اللبنانية ولشهدائه الذين زفهم على مذبح الوطن أمس، ولكل من آمن به وبشرعيته. جيش سقط له شهداء وجرحى وحاولت بعض الألسنة النيل منه ومن هيبته وسمعته، لكن تضحياته كانت أعظم منهم ولهم بالمرصاد خصوصاً بعدما أثمرت دماء رجاله التي سالت، انتصاراً يُشبه الجبال التي تحررت والشاهدة على عمليات فرار وانسحابات كان لجأ اليها عناصر «داعش» بعد مُحاصرتهم في مساحات ضيّقة كادت أن تلتف حولهم وتُنهي وجودهم بشكل كامل، لولا صرخات استغاثات كانت تُغطّي على أصوات قذائف وصواريخ كانت تستهدفهم ليلاً ونهاراً.

في تشييعهم أمس، عبّرت المشاهد عن اللُحمة الوطنية الجامعة وعن الموقف الموحّد للبنان الرسمي والذي أخذ على عاتقه تثبيت حق العسكريين الشهداء والاقتصاص من القتلة. لكن هذا الالتزام الذي أثلج صدور الأهالي في مكان ما، لم يمنع من رصد مشاعر مؤلمة لوالدة تمنّت لو أنها تستطيع أن تخطف الموت من ولدها وأن تهبه حياتها أو نظرة أخيرة منه، ولأب كانت دموعه تحفر في وجدان كل من رآه يبكي حرقة على ولده. والمشهد المؤثر، كان عندما تم التقاط صورة لنجل العسكري الشهيد علي المصري وهو على نعش والده المحمول على الاكفّ رافضاً التخلي أو النزول عنه.

آخر رحلات العمر، آخر محطات الانتقال وآخر لحظات الوداع. كل الأوجاع وقهر السنوات، وضعت أوزارها أمس في أرض احتضنت أجساداً كانت أرهقتها وأنهكتها شمس الجرود. من وزارة الدفاع في اليرزة حيث أُقيم احتفالٌ رسميٌ مهيب لهم، انتقلت جثامينهم باتجاه بلداتهم، كلٌّ إلى مسقط رأسه، ليواروا في الثرى، ولتنتهي بذلك رحلة غياب استمرت ثلاث سنوات، ورحلة عذاب عاشها الأهالي على وقع الإنتظار والأمل ولتنتهي بالصلاة على أرواحهم بعد أن ارتاحوا في حضن وطنهم. أمس ودّع كلّ لبنان شهداء المؤسسة العسكرية الذين استُشهدوا دفاعاً عن لبنان واللبنانيين في معركة العز والكرامة، معركة الوجود والبقاء، معركة الأمل بلبنان متجدد لا تحميه سوى سواعد تُشبه سواعد العسكريون العشرة.

كل الأحلام كانت بالأمس هناك. كل الأمنيات حملت كل لحظات العمر لتصل ما انقطع لسنوات، بساعات طال انتظارها قبل أن تصل إلى ساعة الحقيقة. الحقيقة أن في لبنان جيشاً ومؤسسات ومواطنين، على قدر ومستوى، من الوطنية. عشرة جنود عبرت بالأمس أجسادهم، كطيف في سماء وطن هو أحوج ما يكون اليوم إلى وحدة أبنائه والوقوف صفّاً واحداً ومنيعاً، في وجه السهام التي تُحاول النيل من مؤسسة حصّنت الوطن وحدوده بدماء ضباطها وعناصرها، وأبدعت في رسم أجمل مشاهد الإنتصارات وزيّنتها ببطولات عنوانها العريض: «عشرة شهداء» ستظل تتردد أسماؤهم على كل لسان.