المعارضون متخوّفون على التنوّع البيولوجي… والمنفّذون ينفون
خطر «إعادة تشجير» جبل صنّين يهدّد ما يقارب 25 نوعاً من نباتات تترنّح على حافة الإنقراض. مشروع نبيل في ظاهره، خطير في انعكاساته على التنوّع البيولوجي، بحسب بعض الناشطين البيئيين. فحماية هذا المشهد التنوّعي الفريد يجب أن تشكّل الأولوية القصوى وإن اقتضى الأمر التخلّي عن بعض أهداف التنمية أو الاستعادة. أما ما يزيد قلق هؤلاء فهو اشتراك وزارة البيئة والبلديات المحلية في المبادرة… بغياب تقييم شامل للأثر البيئي. فماذا يجري هناك؟
أطلقت جمعية Lebanon Reforestation Initiative سنة 2018 حملة تحريج في منطقتَي صنّين – بسكنتا وقناة باكيش بهدف زراعة 100 ألف شجرة أرز في المنطقة. وبالفعل، جرى حتى نيسان الماضي زرْع 14647 شجرة، بمعدّل حياة 78%. المنطقة، التي تُعدّ حسّاسة بيئياً كونها تشكّل موطناً لأصناف نباتية نادرة، تضمّ العديد من الزهور المستوطنة (Endemic) المهدَّدة بالانقراض ما لم تتمّ حمايتها. ثم أن منحدرات الجبل الغربية البسكنتاوية تتضمن هي الأخرى موارد مائية مهمّة لينابيع أساسية تسقي بسكنتا وقضاء المتن، مثل نبع صنّين وجوز النمل وضهر الشير وغيرها. ناهيك باحتوائها مناطق رطبة ونظاماً إيكولوجياً ذا تنوّع بيولوجي مميّز يحتّم حماية عناصره المميّزة.
غاية المشروع بحسب الجمعية هي: تثبيت التربة وإنقاذ المنازل من الانهيارات الأرضية؛ تنظيم تدفّق المياه؛ خلق فرص عمل للشباب؛ إعادة إحياء غابات الأرز؛ استعادة الموائل للحياة البرية؛ تعزيز السياحة البيئية؛ وتشجيع الحفاظ على التراث الثقافي. وهي أهداف اعتبرها متابعون لا تتماشى مع الأدلة العلمية حيث لم يُسجَّل وجود مستوطنات بشرية في جبل صنّين تواجه خطر الانهيارات الأرضية، وحيث أن تنظيم تدفّق المياه من خلال زراعة الأشجار يتجاهل المشاكل الأكثر إلحاحاً والتي تتمثل بالخزانات المائية غير المصرَّح عنها والاستخراج غير المستدام الذي يعكّر صفو هيدرولوجيا المنطقة. أما اقتراح الجمعية إعادة إحياء غابات الأرز في لبنان، فاعتُبر مثيراً للقلق حيث أن الأرز الأيقوني ليس مقتصراً بشكل صارم على «بلد الأرز» وقد صنّفه اتحاد حماية الطبيعة بالضعيف عالمياً.
نباتات معرّضة للإنقراض
لمزيد من التفاصيل تواصلت «نداء الوطن» مع الناشط البيئي، رامي معلوف، الذي رأى في إعطاء الأولوية لإعادة تشجير الأرز على حساب حماية النباتات المهدَّدة بالانقراض خطأ فادحاً، خصوصاً وأن عملية التشجير انطلقت دون إجراء دراسة للأثر البيئي ما يضع النظام الإيكولوجي المتنوّع في مواجهة أخطار جسيمة. «جبل صنّين هو أغنى جبال لبنان ويضمّ أكثر من 385 نوعاً من النباتات. 27 منها تنبت حصرياً في سفوحه الغربية من جهة بسكنتا، وخمسة أنواع لم تُلحظ في أي مكان آخر على الكوكب. وهكذا، يمكن لزرع 100 ألف شجرة أرز في منطقة مركّزة أن يخلّ بالتوازن العام للنظام البيئي ويحدّ من توافر الغذاء والمأوى للعديد من الكائنات ما يتسبّب بنزوح أو انقراض الأنواع المحلية». ليس هذا فحسب. فوفق معلوف، قد تؤدي زراعة شجر الأرز بهذه الكميات إلى اضطراب التربة ما ينشأ عنه تدمير الأنواع النباتية النادرة التي تكيّفت مع ظروف تربة محدَّدة طيلة آلاف السنين. إضافة إلى ذلك، قد يؤدّي التظليل الكثيف لهذه الأشجار إلى انقراض النباتات المحبّة للشمس، ناهيك بخطر التأثير على الأراضي الرطبة والموائل المائية حتى في الأنظمة البيئية المجاورة.
فماذا عن طريقة التشجير المعتمَدة في تنفيذ المشروع؟ «هنا تكمن المشكلة الأكبر والمتمثّلة باستخدام الآلات الثقيلة، وإيجاد حُفر كبيرة متقاربة، وشقّ الطرق في الجبال. تُظهر صور الأقمار الصناعية فداحة الكارثة، إذ تبدو الأرض الآن كقطعة جبنة سويسرية أو كمساكب الزرع. والضرر الجمّ الناجم لا يمكن تصحيحه في المستقبل». من هنا أكّد معلوف الحاجة الماسة لدراسة دقيقة للأنواع التي تتراجع في المنطقة، ومتابعة لمدة لا تقلّ عن خمس سنوات لتحديد الأشجار أو النباتات التي يتوجّب زراعتها. فالتخطيط الدقيق وتقييمات الأثر البيئي ودمج الأنواع المحلية المتنوّعة مسائل ضرورية للحفاظ على نظام بيئي متوازن ومزدهر. «أستغرب بدء تنفيذ المشروع قبل إجراء دراسة أثر بيئي شامل بحسب ما ينصّ عليه القانون. فالأولوية يجب أن تعطى لحفظ التنوّع البيولوجي القائم واستعادة الأنظمة البيئية الطبيعية بدلاً من السعي وراء مزارع واسعة النطاق قد ينتج عنها عواقب غير مقصودة ومزيد من التدهور».
المسؤولية ثلاثية
نتابع مع معلوف الذي حمّل مسؤولية ما يحصل إلى جهات ثلاث: الوزارات المعنية (وأولاها وزارة البيئة)، السلطة البلدية والجمعية البيئية. فالمادة الرابعة من القانون البيئي اللبناني رقم 444 الصادر في 29/07/2002 نصّت على وجوب الالتزام بمبدأ الحفاظ على التنوّع البيولوجي. كما حظرت المادة 23 من القانون نفسه الشروع بأي نشاط من شأنه المساس بالتوازن البيئي إلّا بعد الحصول على موافقة مسبقة من الوزارة المعنية. في حين ألزمت المادة 25 إجراء دراسة تقييم الأثر البيئي لأي مشروع قد يكون له أثر ضارّ على البيئة قبل منح أي رخصة أو موافقة تنفيذ. «المنطقة حسّاسة بيئياً… تواصلت مع القيّمين على الجمعية واعترفوا بالخطأ متعهّدين بوقف الأعمال إلى حين القيام بمزيد من الدراسات، لكنهم ما لبثوا أن عاودوا نشاطهم ودراسة الأثر البيئي بقيت غائبة. حاولت الاتصال مراراً بوزير البيئة، الدكتور ناصر ياسين، لدقّ ناقوس الخطر لكن جرى تجاهُل محاولاتي. الوزارة هي المسؤولة الأولى والأخيرة وعليها القيام بواجباتها»، بحسب معلوف.
بدورها، منحت بلدية بسكنتا موافقتها على المشروع دون صدور أي قرار من المجلس البلدي. «على أي أساس تمنح البلدية الحق بالتصرّف بالمشاعات وهي المؤتمنة على الحفاظ على الجبل وعدم المسّ بتنوّعه البيولوجي؟ بحسب المادة 47 من قانون البلديات رقم 77/118، فإن كل عمل ذي طابع أو منفعة عامة في النطاق البلدي هو من اختصاص المجلس البلدي. فهل اتُّخذ قرار معلّل ومسجّل بتاريخه في البلدية في هذا الخصوص؟». تساؤل لمعلوف أردفه بأسف لأن تكون الجمعية، المؤتمنة على حماية البيئة ومراقبة ومواجهة المخالفات، مشارِكة هي الأخرى في تلك الجريمة البيئية. «إذا اعتبرنا أن الوزارة لا تقوم بدورها حمايةً للمناطق الحسّاسة بيئياً، ولدينا مئات البراهين على ذلك وليس آخرها جسر الحجر في كفرذبيان، فعلى الجمعية مواجهة هذه المشاريع والمطالبة بالتزام الدولة والوزارة بإجراء دراسات الأثر البيئي. لذا نعتبر أن مشروع زراعة 100 ألف شجرة أرز في جبل صنّين، المنطقة المصنّفة حسّاسة بيئياً بشهادة جميع الخبراء، يحمّل الجمعية مسؤولية أخلاقية ويجعلها عدوّة القضية التي ترفع لواءها».
المعارضون يناشدون والوزير يردّ
صرخة الناشطين البيئين رافقتها معارضة الحركة الثقافية في بسكنتا والجوار. فالأخيرة توجّهت بكتاب خطّي إلى الوزير ياسين، بتاريخ 11 نيسان 2024، تطالبه بإصدار إيعاز لوقف حملة التحريج في منطقة صنّين – بسكنتا وقناة باكيش إلى حين إجراء تقييم شامل للأثر البيئي. وقد جاء في الكتاب: «بما أن هذه المنطقة هي ملك بلدة بسكنتا وأبنائها بخاصة، وملك الشعب اللبناني بأسره، وينبغي الحفاظ عليها كإرث وطني تاريخي للأجيال القادمة، ومنع أي نشاط يؤدي إلى الإخلال بالنظام الإيكولوجي، أو بالتوازن الطبيعي، أو إلى المساس بثروة التنوّع البيولوجي، أو إلى تشويهه عبر شقّ طرقات غير ضرورية، فأي نشاط يجب أن يتمّ بحذر شديد للحفاظ على هذا التنوّع البيولوجي المهمّ».
أما ياسين، فأشار لـ»نداء الوطن» إلى أن الموضوع قيد المتابعة وقد حصلت اجتماعات في بسكنتا لتوضيح أن المواقع الخاضعة لعملية التشجير تمّت دراستها ولا تهدّد أي تنوّع بيولوجي. وأضاف أن الوزارة تراقب سير العمل منعاً لاستخدام آلات ثقيلة في عمليات الحفر وشقّ الطرقات. «لقد جرى تقديم Safeguarding Framework مفصّل وطلبنا من الآن تقديم دراسة تقييم الأثر البيئي أيضاً. نحن نتابع المسألة باستمرار مع إيماننا العميق بأهمية التشجير وتأهيل الغطاء الحرجي الأخضر».
بين الكفّ والتثبيت
من ناحيتها، لفتت مديرة جمعية Lebanon Reforestation Initiative، مايا نعمة، في حديث لـ»نداء الوطن» إلى أن الجمعية تتعاون مع مجموعة خبراء لحُسن تطبيق المشروع. فالأصناف المهدَّدة بالانقراض أُخذت بالاعتبار. «هناك أصناف لا تظهر في بداية المشروع على أنها مهدَّدة، لكن إذا تبيّن ذلك لاحقاً نعود ونزيل الشتول التي سبق وزُرعت. في صنّين تحديداً جرى الكشف على الأراضي قبل عملية التشجير، وبعد الانتقادات التي وصلتنا قمنا بإرسال خبير مجدّداً حيث خلص إلى عدم وجود أصناف مهدَّدة أو أخرى خاصة بالجبل. جلسنا بعدها حول طاولة مستديرة مع المعارضين واستمعنا إلى مخاوفهم وتوافقنا على التعاون لتحديد أماكن التحريج، من جهة، ومواقع الحماية، من جهة ثانية».
لدى سؤالنا عن دراسة الأثر البيئي، أجابت نعمة أن النسخة المبدئية منها موجودة منذ انطلاق المشروع سنة 2018، غير أنها لم تُقدَّم بشكل قانوني إلى وزارة البيئة للحصول على موافقة رسمية. «لقد اطّلعت الوزارة على كافة الدراسات التي أجريناها والدليل أن المشروع يسير بالشراكة معها، لكننا سنباشر بتقديمها رسمياً للمضي بالمسار القانوني». وشدّدت على أن من شقّ الطرقات هُم المزارعون الذين يمارسون أعمالهم الزراعية في المناطق المجاورة لمنطقة التشجير. «نحن قمنا بتجليس طريق خاص واحد من أجل الوصول إلى مدخل الجبل والباقي اتهامات. أما عمليات الحفر، فحصلت يدوياً باستثناء مساحة فرضت علينا طبيعة أرضها استخدام حفارات خفيفة جداً لإنشاء حُفر لزرع النباتات. الجميع يعلم أن هذه الآلية لا تقضي على النباتات في حال وجودها لأن بذورها تعود وتنمو من جديد. الأساليب مدروسة وندرك جيداً كيفية التعاطي مع التربة».
الناشطون يطالبون بإعلان جبل صنّين محمية بيئية لكفّ يد الإنسان عنه والحفاظ على ما تبقّى من عجائب الطبيعة اللبنانية. لكن نعمة ترى أن الدراسات أثبتت تدهوراً ملحوظاً على صعيد التربة هناك. فهل عمليات التشجير هذه، بالمحصّلة، ضارّة أو مفيدة. «نحن بإزاء جدل عالمي ولا يمكننا توقّع كيفية تفاعُل الطبيعة مع الأمر بعد مئات السنين. هدفنا تثبيت التربة تفادياً لخسارة الأرضية الأساسية لنمو النبات وزيادة التنوّع البيولوجي. 14 سنة مرّت وما زلنا نتعلّم من الطبيعة».