دخل تكليف الرئيس سعد الحريري تأليف الحكومة اللبنانية شهره الرابع، وكل حديث عن «معطيات» و»أفكار» و»حلحلة» ليست إلاّ ّذراً للرماد في العيون بهدف التعمية على الحقيقة، وأكثر من ذلك كل ما جرى تصويره من أن التسوية الرئاسية التي أنهت الفراغ السياسي وجاءت بالعماد عون إلى رئاسة الجمهورية وأعادت الرئيس الحريري إلى القصر الحكومي، أدخلت لبنان مرحلة العهد القوي(..) انتهت، وأساساً لم يكن موجوداً إلاّ في ذهن من روج له. الثابت الوحيد، عشية انتهاء الثلث الأول من ولاية رئيس الجمهورية، أن لبنان يشهد استمرارية للعهد السابق لجهة استهلاك الأشهر الطويلة في تشكيل الحكومات لكن مع الكثير من الكاريكاتور الذي يدفع للأسى ولا يرسم إبتسامة.
صحيح كل ما قيل عن العقد التي تعترض مهمة الرئيس المكلف تأليف حكومة أسموها حكومة «وحدة وطنية»؛ فعقدة التمثيل المسيحي موجودة، وإثارة مسألة التوريث من جانب رئيس الجمهورية الذي اعتبر الوزير باسيل متقدماً في السباق فاقم من هذه العقدة مع الإصرار العوني على 11 مقعدا في مجلس وزراء من 30، أي الثلث المعطل بما يوفر لهذه الجهة الهيمنة على القرار الحكومي وتوجيهه، وهناك مسألة التمثيل الدرزي أيضاً، إلى جانب مسألة تمثيل السنة خارج التيار الأزرق، وطبعاً كل الذين يتحدثون عن حكومة «وحدة» و»وطنية» لم يتوقفوا عند اعتبار أن الوحدة والوطنية تفترض معالجة عقدة أخرى، هي كيفية تمثيل الأكثرية التي شكل امتناعها عن المشاركة في العملية الانتخابية إدانة لكل الطبقة السياسية ورفضاً للعصبيات الحزبية الطائفية والعائلية..
لكن مع كل الوقائع أعلاه وكل الكلام المستند لقراءات مختلفة عن الأوزان والأحجام المنفوخة، فإن ما يجري ليس أكثر من ستار لإخفاء خلافات اساسية أكبر، لأن صراع الحصص لا يمكن أن يكون مبرراً لإرجاء التأليف واستمرار الفراغ ومعه يتدهور حتماً دور ومكانة الحكم، إذ من المعروف أن الصلاحيات الواسعة جداً موجودة حصراً في يد مجلس الوزراء الذي عندما يتعطل يقفل البرلمان أبوابه وتصبح رئاسة الجمهورية في شبه إجازة و.. يتعطل البلد.
في السياسة لا يمكن في المحطات الكبرى ألاّ يأخذ لبنان البلد الصغير المحاط بالنار والأطماع ما يدور في المنطقة وما هو آتٍ. يعني أن العقوبات الأميركية على إيران والتي طُبِّقت الحزمة الأولى منها وتمنع التعامل بالدولار مع إيران، والحزمة الثانية الأشد تأثيراً التي تطال النفط ومشتقاته آتية في الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني)، لن يكون لبنان بمنأى عن التأثر بها، لأنها أُرفقت بموقف صريح من الرئيس ترمب: «من يتعامل مع إيران لن يكون بإمكانه التعامل مع أميركا». وهنا السؤال بمواجهة العقوبات التي تعلن واشنطن أن هدفها تغيير سلوك إيران وإنهاء دورها المزعزع لاستقرار المنطقة، ماذا سيكون موقف «حزب الله»؟
مسألة أُخرى كبيرة على الأبواب وهي طلب المحكمة الدولية من الادعاء ووكلاء الدفاع مناقشة نهائية للأدلة في سبتمبر (أيلول) القادم تمهيداً لمذاكرة نهائية وحكم نهائي في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ووضع حدٍ لتاريخ طويل من الإغتيالات السياسية الكبرى التي قُيِّدت ضد مجهول. في نفس الوقت تضغط جهات لقيام حكومة تطبيع مع النظام السوري!! والتهديد الأبرز أطلقه السيد حسن نصر الله الذي «نصح»، ويقصد الحريري، بـ»عدم أخذ مواقف سيتم التراجع عنها»، داعياً لتأليف سريع لحكومة تعكس نتيجة الانتخابات، أو عليكم مواجهة مطالب أكبر للحزب يُرجح أن تكون زيادة مقاعد في حصته الوزارية! وقال الوزير رفول ممثل رئيس الجمهورية والزائر دوريا للعاصمة السورية وبتكليف من خارج الحكومة أن «مصلحة اللبنانيين تقتضي تطبيعاً كاملاً للعلاقات مع سوريا المنتصرة شاء من شاء ذلك وأبى من أبى».
طبعاً نتيجة الانتخابات كان قد حددها الجنرال قاسم سليماني بـ»وجود 74 نائباً يوالون حزب الله»، وأنه «مطلوب تأليف حكومة المقاومة» أي حكومة حزب الله وبرئاسة الحريري الذي نال إجماع 112 نائباً كلفوه تأليف الحكومة إلاّ حزب الله، وتكون مهمة هذه الحكومة قيادة مرحلة طي صفحة المحكمة الدولية والجلوس مثلا مع الجنرال علي المملوك المطلوب من القضاء اللبناني بمذكرات توقيف بتهم أقلّها تفجير البلد، وكذلك قيادة مرحلة الانتقال من شعار «النأي بالنفس» عن صراعات المنطقة، وهو شعار خرقه «حزب الله» على الدوام، إلى مرحلة إنخراط لبنان كلية في محور الممانعة، وهذا الأمر إذا ما تم فرضه فهو الخطورة بعينها على البلد، ولا بأس بعد ذلك من استخدامه، ولا سيما قطاعه المصرفي، كبوابة خلفية للإلتفاف على العقوبات الأميركية وليتحمل لبنان النتائج، وهذا موضوع عجزت دول كبرى عن تجاوزه.
تقول مصادر الرئيس المكلف أنه «يعتصم بالصبر والثبات» ويرفض الابتزاز، وكثير من الأمور لم تتضح صورتها بعد. الوضع في سوريا ما زال مأزوماً ولم يجد بعد طريقه لتسوية سياسية ترضي السوريين وتسمح بعودة اللاجئين وبدء إعادة الاعمار، والمحكمة الدولية هي حق لكل اللبنانيين بالعدالة بعد عقود من نهج تصحير لبنان من بعض أبرز كباره. ويشي نهج الحريري لتأليف الحكومة أنه يريدها متوازنة إلى حدٍ ما، لأن الانتخابات بما لها وما عليها لا تعكس حقيقة واقع البلد، فتؤمن الحكومة استمرارية التسوية وتضع لبنان على مسافة من الجميع فتعيد التوازن إلى علاقاته الخارجية وتشكل تالياً أداة درء الأخطار عن البلد.
بعيداً عن العقد والعقبات وما يريده النظام السوري من سعي لعودة مباشرة، وطموحات حكام طهران بالهيمنة من خلال وكيلهم «حزب الله»، فإن تأليف الحكومة في لبنان ليس مشكلة ظرفية، بل مشكلة طغت بعد اتفاق الدوحة يوم تم استبدال آليات تأليف الحكومات وفق مرجعية الدستور بتسويات من خارجه، بعدما تم إدخال البدع على الممارسة السياسية من نوع: حكومة مبتورة، الميثاقية، الثلث المعطل، المكون الطائفي الخ.. والطريف في الموضوع أن كل هذه البدع يتم نسبها إلى «أقوياء» رفضوا ممارسة الحكم استناداً للدستور وتباهوا بارتباطهم بقوى إقليمية ينفذون أجنداتها الخاصة، ومعهم انحدرت مكانة لبنان وانعدم دوره.
عرف لبنان في تاريخه الاستقلالي حكم الرئيس اللواء فؤاد شهاب الذي وُصف في حينه بالضعيف، فيما كانت أزمة العام الـ58 المسلحة قد أفرزت بطاركة لكل الطوائف، فتمسك الرئيس بالدستور واشتهر بكلمة يرددها: لن أنفذ إلاّ ما جاء في الكتاب، أي الدستور. وشهد حكمه بناء دولة الرعاية والحماية والقانون وانطلاقة لبنان الذي يُحكم من خلال المؤسسات الملتزمة القانون العام، وكانت حقبة بروز الكفاءات وتحقيق تقدم كبير على طريق الشفافية، وحين طرأ طارئ حدودي التقى رئيس الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا) الراحل عبد الناصر في خيمة أُقيمت على حدود البلدين. فقط للذكرى وبرسم الأقوياء.