Site icon IMLebanon

لبنان بلد جمهوري يحكم باطار اوتوقراطي

جمهورية يسودها الغموض السياسي

والصراعات تخيِّم عليها معظم الفصول

لبنان الى أين؟

هذا السؤال هو لحمة المصير اللبناني وسداته في الملمات.

هل صحيح ان البلاد ستبقى في دائرة الغموض، الى حين اتضاح المصير السياسي في سوريا الغارقة في بحار الإضطرابات.

وهل صحيح، ان المعارك التي دارت وتدور في حلب وحمص وفي جوار اللاذقية وطرطوس، هي في نتائجها أو في استمرارها تقرر وجهة سير سوريا، ولاحقاً لبنان، نظراً للترابط الوثيق بينهما.

في خضم هذه التطورات، دارت في لبنان معارك سياسية لا عسكرية في بيروت وطرابلس وصيدا، امتداداً الى البقاع وعكار، ومعظمها يدور حول انتخابات رئاسة الجمهورية، بين اثنين من المرشحين المنتميين الى ٨ آذار، وعلى ١٤ آذار تأييد أحدهما، العماد ميشال عون أو النائب سليمان فرنجيه. فيما المرشحان التقليديان الدكتور سمير جعجع والرئيس أمين الجميل يعيشان استراحة المحارب والبلاد تائهة في دوامة جمهورية تنتظر اعجوبة الإتفاق على رئيس تواصل لقيادة الجمهورية الى وطن، لا الى بلد غارق في بحر من المفاهيم الغامضة الأهداف والرؤية.

في مطلع الاسبوع الفائت، دارت اللعبة دورة كاملة، في تيار المستقبل قوامها الرئيس السابق فؤاد السنيورة، حول قرار ترشيح زعيم التيار الوطني الحر وقائد تيار المردة، ولا أحد استطاع أن يقرر في غياب الرئيس سعد الحريري، من هو المرشح المحتمل. هل هو الجنرال أم سليمان. بعضهم زعموا حدوث التصويت وبعضهم الآخر، نفاه باصرار، من الوزير السابق سمير الجسر، الى الوزير احمد فتفت وصولاً الى النائب جمال الجراح، ربما لان قصة التصويت غير حقيقية، ولان المواقف متضاربة من الاختيار بين مرشحين من الأربعة الأقوياء، ولان الاثنين ينتميان الى ١٤ آذار، ووحده الدكتور سمير جعجع، يئس من ترشيحه عبر مواقف الحلفاء، وقرر ترشيح الجنرال، ربما عن شعور بأهمية اختياره، وربما لان تيار المستقبل رشح خصمه السياسي، فكان ما كان.

هل تبقى الجمهورية خاوية من أي مرشح رئاسي، ام ان الحديث عن انتخابات حاصلة في ايلول المقبل مجرد كلام بكلام واحلام باحلام.

وهل عادت حليمة الى عادتها القديمة يوم كان رئيس الجمهورية يتقرر اسمه في حوار يقوده السوريون ويشارك فيه اللبنانيون.

لا أحد يملك جواباً حاسماً، حول هذا الموضوع الآن، لان سوريا غارقة في صراع سياسي رهيب، وارضها مفروشة بالجثث والأموات.

هناك معارك طاحنة من الجانبين، والرئيس السوري بشار الاسد، لا ينفي نيته في الترشيح الى ولاية جديدة، ليطوي صفحة الصراع، ولا المعارضة يمكن أن تذهب الى حوار خارج سوريا، حول مستقبل الشعب السوري، فيما ثمة مليون ونصف مليون نازح سوري الى لبنان، والوف النازحين يهيمون على وجوههم في الأردن وتركيا.

القضية تكبر وتزداد خطورة، خصوصاً بعد خروج الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من جحيم الإنقلاب العسكري، على الرغم من المصير الأسود الذي لا يزال غامضاً حول الصراع الخافت بين العلمانية والدينية.

الا ان العقدة تشتد تأزماً بعد قرابة ٥٠٠ سنة من انقلاب القائد التاريخي لتركيا محمد الفاتح في العام ١٤٥٣، وكان احتلاله لمدينة اسطنبول بداية التاريخ الحديث.

النصيحة والشريعة

في العام ١٩٥٨، غرق لبنان في حرب أهلية سماها فريق ثورة وسماها فريق ثانٍ فتنة، لكن اتفاقاً حصل بين الزعيم العربي جمال عبد الناصر والرئيس الأميركي جون كنيدي، أرسى الحرب على قواعد راسخة من الاستقرار.

وفي مطلع عهده، جاء من ينصح الرئيس الجديد للجمهورية فؤاد شهاب، في المباشرة بالإصلاح السياسي، مقدمة لإعادة بناء الدولة وتجديد الطبقة السياسية بما في ذلك الإدارة، التي كان اصلاحها مهمة رئيسية بالنسبة اليه. ولو اقتداء بالرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديغول الذي وصل الى السلطة في ظروف مشابهة.

وبين الجنرالين دارت ظروف صعبة، واحلام دقيقة، لكن الإصلاح كان رائد الرجلين، وان خرج الاثنان من مدرسة واحدة هي الجيش.

يقول الرئيس ألفرد نقاش، ان الجنرال ديغول سبق شهاب الى الحكم بسنوات غداة تحرير بلاده، فرأس حكومة مؤقتة لعامين، قبل أن يرغم على التنحي في كانون الثاني ١٩٤٦، اثر خلافه مع الأحزاب، وفرنسا لما تزل في ظل القوانين الدستورية الثلاثة للجمهورية ١٨٧٠ – ١٩٤٦، يومئذٍ اعتزل الجنرال ديغول السلطة، ولازم منزله في كولومبي لي دو ايغليز، ولم يعد الى الحكم الا بعد ١٢ عاماً، في تلك الأثناء اطلق في خطاب القاه في ١٥ حزيران ١٩٤٠ ملامح جمهورية جديدة كان يتطلع اليها، وتتركز فيها السلطة التنفيذية حول رئيس جمهورية بنتخبه الشعب.

ومع عودته الى السلطة العام ١٩٥٨، اضحى ذلك الخطاب الوثيقة الأساسية التي أسست الجمهورية الخامسة، موعد سقوط الجمهورية الرابعة ١٩٤٦ – ١٩٥٨، حينئذ، كان الجنرال اللبناني فؤاد شهاب في أولى سني قيادة الجيش.

وهكذا، وتحت وطأة المؤسسات الدستورية، واجهت الجمهورية الرابعة عدم استقرار سياسي، وتناحر احزاب ممثلة في الجمهورية الوطنية، مارست ضغوطاً على السلطة الإجرائية أعادا الأزمات، مع تقلّب ٢١ حكومة فرنسية في ١٢ عاما، مما قاد ايضاً الى تدهور الأوضاع الاقتصادية والنقدية، تزامناً مع اشتعال الثورة في الجزائر، مطالبة بالتحرر والاستقلال. وسرعان ما استعاد شارل ديغول نشاطه السياسي في ١٥ ايار ١٩٥٨، عندما دعاه اليمين واليسار على السواء، الى الإضطلاع بمهمة انقاذ النظام، بعد يومين من انتفاضة الجزائر.

ألف ديغول في مطلع حزيران حكومة عملت على وضع دستور جديد، اقرّه الاستفتاء العام في ٢٨ ايلول، ايذاناً بولادة الجمهورية الخامسة التي سيكون أول رؤسائها آنذاك.

كان فؤاد شهاب قد تسلم لتوّه صلاحياته الدستورية، وان واجه الثورة المضادة قبل الحكومة الرباعية على نحو قريب من تجربة شارل ديغول، وصل فؤاد شهاب الى رئاسة الجمهورية، بعدما خبر السياسة بضعة أيام العام ١٩٥٢، قبل ان ينسحب منها الى قيادة الجيش مجدداً. اكتفى فؤاد شهاب بمراقبة عهد الرئيس كميل شمعون الى ان انفجرت في وجه الاثنين الازمات.

رفض فؤاد شهاب الاقتداء بالنظرية الديغولية، وحافظ على الدستور اللبناني من دون أي تغيير. وتمسك بوجهة نظره القائلة ان الواقع اللبناني المغاير، والمتأثر بتركيبة اجتماعية معقدة لا تسمح باستعارة الجمهورية الخامسة أو تكرارها.

كلاهما شارل ديغول وفؤاد شهاب كانا يحتاجان الى اصلاح في الدستور والطبقة السياسية الحاكمة، تبعاً لأولويات متعارضة، فسعى الأول الى انقاذ الدولة، من خلال دستور جديد، وسعى الثاني الى انقاذ الوطن والدولة في آن، من خلال مصالحة وطنية من غير ان يلامس بين المؤسسات الدستورية، هكذا بدا الرجلان لشعبهما خشبة خلاص، في توقيت متقارب قاد الى الإستنجاد بهما في انتفاضة فرنسا وثورة لبنان.

في مرحلة لاحقة، على أبواب نهاية ولايته الرئاسية عام ١٩٦٤، في معرض تبريره أولوية الإصلاح الإداري على الإصلاح السياسي نقل عن فؤاد شهاب انه لم يشأ أن يحكم بثورة.

ويقول الرئيس تقي الدين الصلح، فكان قريباً من فؤاد شهاب، ان هذا الاخير كان مقتنعاً بحاجة الدولة الى اجراء اصلاح اجتماعي، يرسخ العدالة الاجتماعية التي تتطلبها شرائح كبيرة في المجتمع. الا ان ورشة الإصلاح، سعياً الى بناء دولة حديثة، بدأت غداة توقيع حكومة رشيد كرامي عقد اتفاق للتعاون مع التطور السياسي.

كانت الحكومة اللبنانية قد شعرت بخطورة عدم امتلاكها المعلومات والدراسات والإحصاءات الدقيقة، عن واقع المناطق اللبنانية وحاجاتها، فعهدت في هذه المهمة الى معهد كان يعني بهذه القضايا، وقد مهدّت لذلك في اجتماعات عمل عقدها رئيس الجمهورية في ٧ آذار ١٩٥٩ و٨ منه، مع المركز الوطني الفرنسي للأبحاث العلمية، ومدير معهد الكاهن الفرنسي لوي جوزيف لوبرية، وعرض له المهمة التي يريد أن يوكلها اليه. أدركت البعثة الفرنسية، ان عملاً شاقاً ينتظرها، في بلد متشعب الولاء السياسي والانتماء الطائفي والإنتساب العقائدي، ومثقل بالمصالح المحلية والدولية، وتسوده فروق اقتصادية واجتماعية.

كان الرئيس شهاب بعد تسلّمه صلاحياته الدستورية، الف هيئة مركزية للإصلاح الإداري والتخطيط لتحديثها على يد باحثين اجتماعيين مهمتها وضع تقارير واقتراحات بالمشكلات الاقتصادية، والحاجات الملحة، تبعاً لأهداف محددة في وضع برنامج تنمية، يأخذ في الإعتبار الموارد المتوفرة لدى الدولة اللبنانية، كما لدى الافراد، وعهد بهذا الامر الى بعثة ايرند التي كان اول فرقها في لبنان مؤلفاً من ٤٩ عضواً بينهم عشرة خبراء فرنسيين و٣٩ لبنانياً، واعتبر المرسوم رقم ١٩٣ المنشور في العام ١٩٥٨، المرجع النظري والموجه للمرحلة الشهابية، لاعادة بناء الادارة وهيكلتها وادوار الوظائف.

وقد تركت تلك الأعمال، انجازاً كبيراً للحكومة الرباعية برئاسة رشيد كرامي وعضوية الرئيس حسين العويني والوزيرين ريمون ادة وبيار الجميل.

وفي مخطوطات الأب لوبريه ان رسالة مؤرخة في ٣ شباط ١٩٦٢ موجهة الى الاساقفة في الفاتيكان. مفادعا ان التباينات في نمط الحياة بين شريحة السكان التي تتمتع بها مستويات المعيشة على الطريقة الأميركية، لا تزال قديمة في جذورها والأهداف.

كان فؤاد شهاب قد اكتشف في الأشهر التالية لانتخابه، وهو يطلع في الاجتماعات الدورية التي كان يعقدها مع اختصاصيين وخبراء، أن ليس في حوزة الإدارة اللبنانية خرائط طرق للمدن والبلدات اللبنانية، ولاحظ أيضاً ان الخرائط الوحيدة المتوافرة هي في حوزة الجيش، نظراً الى حاجته الى خطوط اتصال ومواصلات لانتشار جنوده، لكنهم ومواقعهم بحاجة الى تعبيد.

واطلقت حكومة الرئيس الشهيد رشيد كرامي، في نطاق الأهداف نفسها، في موازاة تحقيق رعاية الدولة اللبنانية، مشروع الضمان الإجتماعي في ٢٥ ايلول ١٩٦٣، دفاعاً عن الطبقة الشعبية العاملة، وحفاظاً على حقوقها بما يتعلق بالامومة والخدمة والمرض مما جعل استيراد الأدوية بكلفة معقولة، برهاناً على عدالة السلطة.

وبلغ الى رئيس الجمهورية مراراً، ان اصحاب مؤسسات صناعية وتجارية كبيرة ونافذة تدخلوا لدى عدد من النواب لحملهم على عرقلة اقرار المشروع المقدم منه، تجنباً للتكاليف المادية.

ويومئذ خاطب فؤاد شهاب السيد ناظم عكاري بعبارة: سجل ان مجلس الوزراء اقرّ المشروع.

وسبق انشاء الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ايجاد جهاز هدفه تقديم الرعاية الاجتماعية، وطلب تقديم العدالة السياسية على جميع المواقع الرسمية.

واستحدث الرئيس فؤاد شهاب مصلحة الانعاش الاجتماعي بموجب مرسوم اشتراعي رقم ١٥٥ صدر في حزيران ١٩٥٩، جعل المهمات الاصلاحية معززة بتدابير وموظفين.

ويقول الوزير السابق رضا وحيد ان وزارة العمل دخلت طرفاً بين اصحاب العمل والعمال لمعالجة المشاكل الناشئة فيما بينهم، فحظر القانون عند وقوع خلاف اللجوء الى الاضراب قبل انقضاء ١٥ يوماً، تعمد خلالها الوزارة على تسوية الامور ومصالحة الفريقين.

ومن ابرز الانجازات استحداث مصلحة الانعاش الاجتماعي.

يورد الوزير السابق المرحوم فيليب بولس ان الخطوة التالية لاصدار المراسيم الاشتراعية، ادخال وجوه شابة، مميزة ومثقفة وصاحبة خبرة الى الادارة، تأكيداً لجدية امتحان الاصلاحات التي تتطلب اعادة تكوين العناصر البشرية المؤهلة لتطوير الادارة اللبنانية، وكان من أبرزهم الرئيس الياس سركيس، يوم كان مديراً لشؤون الرئاسة، وشفيق محرّم وفريد الدحداح، وبطرس ديب، وعبد الرحمن طبارة، وجوزيف زعرور وحسن فرحات، وجوزف دوناتو ومحمود عثمان وكارلوس خوري وشارل رزق وشارل حلو وجوزف نجار، طبعاً قبل تسلمهم المناصب الوزارية.

وهذا ما جعل الاصلاح السياسي يسير بخطى بطيئة اولاً، الى درج لاحقاً في ميدان الحداثة، لا سيما بعد ادخال تعديلات دستورية، كان الهدف منها، بلوغ الهدف الثاني، من خلال نشوء طبقة سياسية من مجلس النواب، تدرك جيداً الحاجة الى المؤسسات الدستورية اللبنانية.

وبعد الاصلاح الاداري، كانت ثمة خطوة أولى على طريق الاصلاح السياسي، هي وضع قانون جديد للانتخابات النيابية.

ويقول الاستاذ فيليب بولس، انه ما ان انطلق العهد الجديد حتى بدأت ترتسم تباشير التجديد في الحياة السياسية، رغبة من توليد طبقة سياسية شهابية.

واعتقاداً منه بضرورة تجنيب البلاد، في كل انتخابات نيابية عامة، عمد فؤاد شهاب الى وضع صيغة قانون جديد للانتخابات، فسعى الى آلية مستوحاة مما ورد في عهدي بشارة الخوري وكميل شمعون.

وبذلك تجاوز الدائرة الانتخابية الواسعة وهي المحافظات الخمس التي كانت قد خبرها لبنان بين عامي ١٩٣٤ و١٩٥١، وتجاوز ايضاً الدائرة الفردية مقعد أو اثنان.

وكان الرئيس شمعون قد اعتمد صيغتين متقاربتين في انتخابات ١٩٥٣ و١٩٥٧.

كان اعتماد القضاء دائرة انتخابية مستمداً من التقسيم الاداري الذي كان قد لحظه المرسوم الاشتراعي رقم ١١٦ الصادر في ١٢ حزيران ١٩٥٩، بجعله اياه وحدة ادارية صغيرة، منبثقة من وحدة ادارية أكبر، هي المحافظة التي قسمت أقضية.

وتبعاً للصيغة الجديدة، حافظ قانون الانتخاب على مواقع البيوتات السياسية وعلى الزعماء التقليديين.