تساءل الرئيس تمَّام صائب سلام أمام المشاركين في أعمال مؤتمر ميونيخ للأمن في دورته الحادية والخمسين يوم الجمعة الماضي (6 شباط 2015) وبعدما أدان مع الآخرين الواقعة المبغوضة المتمثلة بإحراق «داعش» الطيار الأردني الأسير معاذ الكساسبة: «لماذا لم يشعر العالم بنفس الصدمة والغضب عندما قُتل أربعة من جنودنا الشجعان مِن قِبَل المجرمين أنفسهم، ثم إن لدينا 26 شخصاً معتقلين من التنظيمات نفسها…».
لو كان الحُكْم في لبنان موضع إحترام دول العالم كما هي حالة الإحترام التي للأردن في نظر دول العالم، لكانت دول العالم تشاركُنا الغضب على التصفية الجسدية لأربعة من الجنود اللبنانيين الأسرى وبصرف النظر عن طبيعة التصفية، مع ملاحظة أن الدواعش أرادوا من عملية إحراق الطيار المقدام معاذ الكساسبة إدخال الحذر أو الرعب في نفوس حكومات تشارك في عمليات التحالف ضد «داعش» فلا ترسل هذه الحكومات طيارين يقومون بطلعات ما دام تنظيم «داعش» في حال سقطت طائرة أو تمّ إسقاطها لا يعترف بالقوانين المتعارَف عليها دولياً ولا حتى المثَّبتة في الحديث النبوي الشريف، في شأن التعامل مع الأسرى. ودليلنا على ذلك ما إرتأته دولة الإمارات التي أرسلت إلى الأردن بعضاً من طائراتها الحربية على أن يتولى قيادة هذه الطائرات طيارون أردنيون. (نشير إلى أن دولة الإمارات كانت في الأسبوع الأخير من شهر أيلول الماضي (شاركت من خلال مريم المنصوري أول قائدة طائرة حربية F 16 في الغارة على مواقع «داعش» في سوريا. كما شارك في الغارات الطياران الحربيان السعوديان الأميران خالد بن سلمان بن عبد العزيز الإبن العاشر لخادم الحرميْن الشريفيْن الملك سلمان، وطلال بن عبد العزيز بن بندر بن عبد العزيز. والإثنان من أحفاد جيل التأسيس الثاني في المملكة).
ولو كان ذوو الجنود اللبنانيين الأربعة الذين قضوا إعداماً وجدوا من الدولة ما وجده والد الطيار الكساسبة ووالدته وزوجته وأفراد عشيرته من الملك عبد الله الثاني ومن زوجته الملكة رانيا، لكان التعاطف الدولي الممزوج بالغضب الذي أبدته الحكومات العربية والأجنبية، مع الأردن نتيجة نوعية تعامُل الدولة شعباً وملكاً وملكة ومؤسسة عسكرية، لقيه أيضاً لبنان. لكن كيف سيحدُث هذا التعاطف إذا كان ذوو الجنود الشهداء خيَّموا في الساحات وفي مناطق من الطرقات الدولية لكي يحثوا الدولة على إنقاذ أبنائهم الأسرى. وكيف سيحدث إذا كان هؤلاء هم من يزور المسؤولين ورموز المجتمع الديني لكي يهتموا، في حين يقطع ملك الأردن عبد الله الثاني زيارة إلى الولايات المتحدة ويتوجه إلى عمان ويضع الدولة حكومة وجيشاً إلى جانب عرشه في معالجة الآثار الحزينة الناشئة عن عملية إحراق الطيار معاذ الكساسبة أولاً، وهذا تمثَّل بخير الكلام الذي كان من نوع ما قل ودل ثم بالتعامل مع والد الطيار وعشيرته في محافظة الكرك وكأنما هو مصاب أيضاً بالفاجعة، ويضيف رفاق معاذ بترتيب مع الملك تحية جوية بطائراتهم في سماء مرابع العشيرة حيث الملك يعزي ويتقبل العزاء في الوقت نفسه وتفعل الواجب في أرفع مراتبه زوجته الملك رانيا، التي عندما كانت هنالك دعوة إلى تظاهرات تنديد تسير في شوارع عمان إنضمت إلى هذه التظاهرات وحملت صورة الطيار الشهيد وكأنما هو أخ لها. وفي الوقت نفسه تتكرر الطلعات الجوية ثأراً للطيار الشهيد ويقابل المجتمع الدولي هذا السلوك المتعدد الوجوه بتقدير وتعاطُف. بالمقابل يشعر المرء بمرارة كيف أن تعامُل الدولة في لبنان مع الجنود الأربعة كان التعامل الذي يجعل المجتمع العربي والدولي يرى أنه إذا كان أهل الفقيد (هم هنا الدولة اللبنانية حكومة وبرلماناً وأحزاباً) يتعاملون مع مأساة الجنود الأربعة وكأنما هم قضوا في حادثة سير فهذا يعني أنه لا مجال للغضب ولا للتعاطف حيث أنه لا يجوز أن يكون غير اللبناني لبنانياً أكثر من اللبنانيين الذين هم في مواقع المسؤولية.
خلاصة القول إن توافُر عناصر الإحترام كفيل بالتعاطف مع مَن تصيبه فاجعة. هذا لقيه الأردن. ولن يلقاه لبنان ما دامت الأحوال على ما هي عليه ليس فقط تبعاً لما تساءل الرئيس تمَّام في شأنه مقارنة منه بين مشاعر الصدمة والغضب العربية والعالمية على الذي فعله الدواعش بالطيار الأردني والمشاعر الباهتة، بل وغير الموجودة، على أربعة جنود لبنانيين قضوا ظلماً، وإنما لأننا ونحن ننشر هذا الكلام يكون لبنان لليوم الثالث والستين بعد المئتين ممنوع عليه من بعض أطيافه وطوائفه (وبالذات الطائفة المارونية التي لم يغتنم أقطابها المعطلون ذكرى شفيع الطائفة فيتواضعوا… أو بالأحرى يتواضعا إشفاقاً على وطن يكاد يتبعثر) تنفيذاً لإرادات عربية – إقليمية – دولية أن يكون له رئيس جمهورية، ويكون مسلسل فصول التقاعس عن أداء الواجب الذي يحقق إحتراماً للبلد متواصلاً فصلاً تلو فصل.
ومن جملة الفصول التي تأخر إقتحام محظوراتها إنجازه وإن على مضض، معادلة «بيروت – صيدا – طرابلس» منزوعة الصور التي تكتسب في معظمها صفة الإستفزاز من دون أن تكون هنالك في الأفق ملامح إحتمال حدوث الخطوة الأهم وهي أن العواصم الثلاث للبنان، العاصمة الأم بيروت والعاصمة الثانية طرابلس والعاصمة الثالثة صيدا، منزوعة السلاح. وفي حال بات هذا المستحيل ممكناً فإن العالم سيحترم لبنان. ونشير هنا إلى أن من حق البلديات في العواصم الثلاث تحصيل رسوم مؤجلة على الصور واليافطات التي جرى تعليقها بما في ذلك يافطات الجمعيات والشيخات وحفلات الرقص والغناء وغيرها من Bعاجيب وغرائب اليافطات الحزبية والتملقية، ونقول ذلك على أساس أنه إذا كانت البلدية تفرض رسوماً على لوحة معلَّقة على حائط مكتب لطبيب أو مهندس أو خلاف ذلك ولا تؤذي هذه اللوحة أحداً، فكيف بالصور واليافطات التي تشحن النفوس على مدار الساعة وتجعل المدينة بكاملها مشروع فتنة.
في أي حال عسى ولعل تكون إزالة هذه الندوب في وجه بيروت وشقيقتيْها ثابتة فلا يعاد رفْع الصور واليافطات كما لا تُنقل إلى المناطق اللبنانية. كما عسى تستتبع الإزالة هذه خطوة نوعية في إتجاه إنتخاب رئيس للجمهورية أو حتى إستعادة الرئيس المنصرف ميشال سليمان بعدما أُزيلت في أشهر قليلة من الإنصراف حالات من العتب المتبادَل، على خلفية إعلانه وتشبيهاته، بينه وبين أطراف مارونية وشيعية ودرزية تمثَّلت بلقاءات وزيارات ظاهرها إجتماعي وباطنها توق من جانب الرئيس الذي إستعجل الإنصراف قبل إنتخاب خلف له، للعودة إلى القصر المهجور. وعندما رأينا ما فعله الطليان ببلدهم جرّاء إنقساماتهم السياسية وإختاروا يوم السبت 31 كانون الثاني 2015 أحد القضاة (سيرجو متاريلا) رئيساً لهم سبق أن إغتالت «المافيا» الصقلية عام 1980 شقيقه، فإننا نتساءل: لقد خشي الطليان من مخاطر إتساع رقعة الإنقسام ورأوا في هذا القاضي (رجل الثالثة والسبعين) الذي شغل مِن قبل وعلى رغم أنه لا يملك الحنكة السياسية منصب وزير الدفاع ثم منصب وزير التعليم، خير حل لترويض المنقسمين على بعضهم. وحيث أننا في لبنان أكثر المنقسمين إنقساماً فإن تولية أحد القضاة لفترة إنتقالية مثل الإيطالي جو متاريلا ومثل القاضي عدلي منصور في مصر قد يعود على البلد ببعض الإحترام الذي ينقصه، ومن دلائل هذا الإحترام المفقود أن الرئيس تمَّام صائب سلام تساءل كيف أن المجتمع الدولي المصدوم بما حصل للطيار الأردني لم يكن على الصدمة نفسها إزاء تصفية الجنود اللبنانيين الأربعة. كما من دلائل الإحترام المفقود أن المبعوث الفرنسي جان فرنسوا جيرو جاء موفداً من رئيسه هولاند ليستنتج بعد لقاءات مع كل أطراف تعطيل إنتخاب الرئيس «أن الظروف غير ناضجة لإتمام توافُق على إنتخاب رئيس». وعزز هذا القول أن أحد القادة في «حزب الله» محمود القماطي وبعد لقاء وفد من الحزب برئاسته مع الجنرال ميشال عون يوم الجمعة الماضي 6 شباط 2015 ردّ عمّا إذا كان المبعوث الفرنسي جاء إلى لبنان بمبادرة ما، بعبارة تصلح مطلعاً لأغنية لن تستدرج العالم إلى إحترامنا وليست خبراً يطمئن النفوس ويُخفّف مستوى الإحباط والإنحطاط في المجتمع اللبناني. وهذه العبارة هي: «رح نبقى هون مهما العالم قالوا… ما منترك عون ولا منرضى بدالو».
ومع ذلك فإن الجنرال لا يرشِّح نفسه رسمياً ولا يُشارك نوابه مع حلفائهم نواب «حزب الله» وآخرين في الجلسات الكذبية لإنتخاب رئيس الجمهورية. وأما السفير العربي الأكثر حدْباً على لبنان علي عواض عسيري فإنه يصول ويجول من قطب ميسِّر إلى قطب معسِّر ولا يخرج بغير القول كمن يؤذِّن للصلاة «أيها الأشقاء. إن دعوات قادة المملكة الدائمة لكم للحوار والوحدة هي تعبير عن مدى حرصهم على لبنان وهي أمانة في أعناقكم. أناشدكم بحق الأخوَّة أن تعملوا بوحي هذه الأمانة…».
هل من مجيبين فيحترموا أنفسهم. ويصبح لبنان موضع إحترام الجميع؟ نتفاءل بوعي المعطِّلين ربما يحدث.