ليست المهزلة في الاحتفال بذكرى الثالث عشر من تشرين الاوّل – أكتوبر 1990، ذكرى استيلاء الجيش السوري على قصر بعبدا ووزارة الدفاع اللبنانية وبداية نظام الوصاية السورية على كلّ الأراضي اللبنانية. استمرّت هذه الوصاية خمسة عشر عاما، الى ان خرج النظام الأمني السوري من لبنان في السادس والعشرين من نيسان – ابريل 2005 على دم رفيق الحريري.
المهزلة في عدم استيعاب النتائج التي ترتبت على ذلك الحدث الذي كان النهاية السياسية لما يسمّى عن حسن نيّة او عن سوء نيّة «المارونية السياسية» في لبنان، وهي تسمية اخترعها المفكّر الراحل منح الصلح.
في 1990، تكرّست النهاية السياسية لـ»المارونية السياسية» وهي النهاية السياسية للمسيحيين في لبنان الذين ارتضوا خوض كلّ المغامرات المستحيلة بدءا بقبول زعمائهم اتفاق القاهرة في تشرين الثاني – نوفمبر 1969 ثم انتخاب سليمان فرنجيّة الجدّ رئيسا للجمهورية في العام 1970 غير مقدرين معنى وجود شخص لا علاقة له بما يدور على الصعيد الإقليمي في موقع رئاسة الجمهورية اللبنانية في احدى اكثر المراحل دقّة في تاريخ الشرق الاوسط. كان اخطر ما في تلك المرحلة فرض اتفاق القاهرة على لبنان وبدء تدفّق المسلحين الفلسطينيين على أراضيه نتيجة هزيمة «المقاومة الفلسطينية» في الأردن وصعود نجم حافظ الأسد على رأس نظام سوري يتقن إدارة التوازنات الإقليمية والدولية ببراعة ليس بعدها براعة وصولا الى اشعال الحرائق في لبنان ولعب دور الاطفائي الذي من دونه لا استقرار في المنطقة، بل نزاعات يمكن ان تندلع في أي لحظة مع إسرائيل.
لعلّ اكثر ما لم يفهمه المسيحيون في لبنان في تلك المرحلة انّ لا طرف غربيا، اميركيا او أوروبيا يمكن ان يهبّ لمساعدتهم في حال دخولهم في مواجهة مع الفلسطينيين الذين كان النظام السوري يشجّعهم على إقامة دولة داخل الدولة اللبنانية، على غرار الدولة التي يقيمها الآن «حزب الله» خدمة لمصالح ايران ولا شيء آخر غير ذلك.
قرروا خوض سلسلة من المغامرات التي تخللها الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 1982 ونتائجه المدمّرة على المسيحيين قبل غيرهم، على الرغم من لعبه دورا حاسما في اخراج المسلحين الفلسطينيين من لبنان… لمصلحة «الحرس الثوري» الايراني كما تبيّن لاحقا. توجت كل المغامرات التي خاضها المسيحيون، ابتداء بتوقيع اتفاق القاهرة المشؤوم، بتحقيق النظام السوري ما كان يصبو اليه. لم يكن ذلك ممكنا من دون الحسابات الخاطئة، خصوصا على الصعيد الإقليمي، في السنوات 1988 و 1989 و 1990 عندما كان الجنرال ميشال عون في قصر بعبدا رئيسا لحكومة موقتة، رفض المسلمون المشاركة فيها. لم تكن من مهمّة لهذه الحكومة سوى تأمين انتخاب رئيس للجمهورية خلفا للرئيس امين الجميّل.
شكّل ميشال عون في تلك المرحلة حالة تمرّد تجلى فيها العجز المسيحي عن استيعاب النتائج التي يمكن ان تترتب على الدخول في مواجهة مع «القوات اللبنانية» التي لم تكن سوى ميليشيا من ميليشيات الحرب اللبنانية ارتكبت مثلها مثل غيرها الكثير من الأخطاء، بما في ذلك «حرب الجبل».
خلاصة الامر ان 13 تشرين الاوّل – أكتوبر 1990، كان نهاية مرحلة في لبنان. للمرّة الاولى منذ الاستقلال، يدخل السوري قصر بعبدا ووزارة الدفاع ولا تعود هناك منطقة لبنانية واحدة خارج هيمنته. يومذاك، انتهى الدور السياسي للمسيحيين في لبنان، خصوصا بعدما اغتال النظام السوري رئيس الجمهورية المنتخب رينيه معوّض الذي شكلّ محاولة لقيام نظام لبناني متوازن يتمتع بغطاء عربي ودولي في ظلّ اتفاق الطائف.
يصعب على من لا يستوعب معنى نهاية حقبة «المارونية السياسية» في 1990، استيعاب ما آل اليه الوضع اللبناني في 2019. هناك بكلّ بساطة نظام سياسي جديد حلّت فيه الوصاية الايرانية مكان الوصاية السورية. هل من عيب اكبر من عيب لجوء القضاء اللبناني الى ملاحقة صحيفة «نداء الوطن» بسبب عنوان يعكس الواقع القائم في البلد، في حين يتجاهل كلام الأمين العام لـ»حزب الله» حسن نصرالله الذي يؤكد فيه ولاءه المطلق لإيران و»المرشد» علي خامنئي الذي وصفه بـ»حسيننا»؟
اخطر ما في الامر، انّ هناك مسيحيين لا يريدون فهم ابعاد ان يكون «حزب الله» هو من يقرّر من هو رئيس الجمهورية في لبنان وانّ مثل هذه الجريمة في حجم جريمة قبول اتفاق القاهرة الذي يتحمّل مسؤوليتها المسلمون السنّة، في معظمهم، وكمال جنبلاط أيضا وايضا.
بقي موقع رئيس الجمهورية خاليا، طوال سنتين ونصف سنة، الى ان جاء اليوم الذي تقرّر فيه انتخاب مرشّح «حزب الله» رئيسا. هناك نتائج ستترتب على ذلك. في مقدّم هذه النتائج طيّ صفحة الوجود السياسي للمسيحيين في لبنان نهائيا، اللهمّ الّا اذا كان مطلوبا استخدامهم في الضغط على السنّة والدروز في مرحلة هناك تخلّ عربي واوروبي واميركي عن اهل السنّة في لبنان.
ما يُفترض ان يعيه المسيحيون في لبنان ان المرحلة المقبلة ليست مرحلة استعادة حقوقهم، خصوصا ان هذه الحقوق صارت رهينة لدى ايران. ليس الموضوع موضوع حقوق مسيحية وحرائق «لا تطال غير المناطق المسيحية» على حد تعبير ذلك النائب العوني – النكتة. هذا النائب الذي شكا من اقتصار الحرائق على المناطق المسيحية، وهذا ليس صحيحا، نكتة سمجة لا اكثر تنمّ سوى عن مدى انتشار الجهل والامّية السياسية في أوساط مسيحية معيّنة. الموضوع كيف يقاوم المسيحيون، بالتفاهم مع المسلمين، بمن فيهم الدروز طبعا، الهجمة على الاقتصاد اللبناني وعلى المصارف اللبنانية التي تشكّل آخر معقل لهم وآخر منطقة نفوذ حقيقية لهم في لبنان. من الواضح انّ «حزب الله» يستهدف المصارف اللبنانية متذرّعا في هجومه عليها بالعقوبات الاميركية التي فرضتها الإدارة الاميركية على ايران وادواتها المنتشرة في المنطقة.
في 1990، كانت النهاية السياسية للمسيحيين في لبنان. هذا ما يرفضون تصديقه رافضين ان يأخذوا في الاعتبار عدد الذين هاجروا لبنان على دفعات منذ تلك الفترة، خصوصا نتيجة الحرب بين الوية الجيش اللبناني التي كانت بامرة ميشال عون « و»القوات اللنانية.
كانت 1990 سنة تحوّل دراماتيكي على صعيد خسارة اللبنانيين موقعهم السياسي في لبنان بسبب غياب الوعي لما يدور في المنطقة وخطورة الرهان على صدّام حسين الذي اقدم في تلك السنة على مغامرته المجنونة في الكويت. يبدو ان عدم استيعاب الدرس الذي ترتب على دخول القوات السورية الى قصر بعبدا ستكون له نتائج وخيمة في 2019. لاتزال للمسيحيين اللبنانيين اهمّية على الصعيد الاقتصادي. اذا انهار الاقتصاد بسبب المسّ بالنظام المصرفي سيعني ذلك النهاية العملية للمسيحيين من خلال تدمير الموقع الأخير لهم لبنانيا. انتهى موقعهم السياسي… وجاء دور انهاء موقعهم الاقتصادي!