ليس ما يُطرح أمام اللبنانيين اليوم أزمة تشكيل حكومة ضمن القواعد التي يحكمها الدستور أو حتى التي تتحكم بها الموازين بين القوى وقد بلغت المراوحة في هذا التشكيل أكثر من نصف عام، إنما هي أزمة إدخالات جديدة على القواعد والأعراف المعمول بها والتي تذهب إلى حد يضرب الدستور ذاته ويقوّض أركان الدولة كلها.
يُضاف إلى ذلك حجم الاستشعار في التحولات الإقليمية الذي يتفاعل معها لبنان بحساسية فائقة وتندرج كواحدة من الأسس والمعايير التي تتحكم بالتوازن المحلي أكثر من نتائج الانتخابات، وقد أظهرت أحداث الأسابيع الأخيرة مدى التفاعل بين الواقعين اللبناني والسوري حتى على المستوى الداخلي للطوائف.
عادةً لا تمر أزمات كهذه إلا وتترك خلفها أعرافاً جديدة كلّما تراكمت كلّما أبعدت الصيغة التوافقية عن مضمون التوافق الحقيقي الذي كان يُقصد به البُعد الطوعي لتوجهات الطوائف والفئات الرئيسة وليس الطابع الإكراهي الذي تتجلى تعبيراته على أوجه زعماء البلاد وهم مُلزمون بتقديم التنازلات المُؤلمة كتكريس لتراجع الديموقراطية اللبنانية أمام النمط الشمولي الذي يزحف باتجاهها. صحيح أن النظام برمته أخذ يبتعد عن الطبيعة الديموقراطية أو التعددية ويذهب إلى حدود تشبه النمط الأوتوقراطي في صيغة الحكم، إذ هناك دائماً ما هو فوق المؤسسات وفوق التوافقات أو حتى فوق القوانين الناظمة. وهذا يترافق مع تحوّل كبير في الأدوار والوظائف التي تلعبها الطوائف أو الفئات التي كان تآلفها يحكم حقب السلام بين اللبنانيين واختلافها يقود البلاد إلى الحروب والنزاعات التي مرّ بها لبنان خلال العقود الماضية.
لقد طوت المرحلة الأخيرة حقبة الامتياز الذي تمتعت به الطوائف الكيانية في لبنان وبالأخص المسيحيين الذين تحلقوا حول عهد الرئيس ميشال عون بصفته عهداً قوياً قادراً على تحقيق توازن داخلي واستعادة الحقوق والصلاحيات لموقع رئاسة الجمهورية التي فقدها المسيحيون بعد الطائف. وكان الانقسام التقليدي بين طوائف كيانية ساهمت في تأسيس فكرة لبنان وحافظت على امتياز معنوي وصَمَد تنوعها طوال الحقب العصيبة الماضية في وجه الإمبراطورية العثمانية والانتداب الفرنسي وعهد الوصاية السورية، وطوائف مُلحقة انضمت إلى جبل لبنان بموجب إعلان غورو لدولة لبنان الكبير هو عبارة عن ارتباط لبنان الدائم بتراثه وتعدديته واحترامه تاريخ وتضحيات كل فئاته، وذلك بغض النظر عمّا قد يطرأ من تحولات لاحقة. كان ذلك واحداً من الدوافع التي أدت إلى تضمين الصيغة الميثاقية في الدستور اللبناني. ولقد أخذ دور الطوائف الكيانية يتراجع عن دائرة التقرير في مقابل تفاقم الأدوار الأخرى التي أصبحت مُقرّرة في الواقع اللبناني وفي الارتباطات الإقليمية، وذلك بمعزل عن شروط الديموقراطية التوافقية وبشكل يتحكم بدور لبنان وهويته وانتمائه للمحيط.
لكن الإشكالية تكمن في أن هذا التحوّل لا يتأتى من التغيّرات الديموغرافية التي تتراكم معطياتها ضمن الحدود اللبنانية بقدر ما هو نتيجة لعوامل وأسباب تحكمها المعادلة الإقليمية والتوازنات في المنطقة. ومعروف أن اتفاق الطائف كرّس المُناصفة بين المسيحيين والمسلمين بغض النظر عن التحولات السكانية التي لا تأتي نتائجها لمصلحة المسيحيين بشكل عام، لا بالنسبة للمعطيات العددية في الداخل ولا على مستوى قضايا اللجوء والنزوح التي طرأت على لبنان. لكن في المقابل ينقسم المسيحيون تجاه تلك الحقيقة وتتشعّب خياراتهم في أساليب المواجهة تلك، ويقود الموقف من ذلك إلى الانحياز لواحد من الخيارات الإقليمية القائمة، أو محور من المحاور، بين تحالف الإقليات وامتداده الذي يصل إلى إيران من جهة، وبين النموذج الذي يحفظ التعددية اللبنانية ولونها في الإطار الديموقراطي، ومن شأن ذلك أن يرسم مسافة فاصلة بين ديموقراطية لبنان ونموذج الحكم الأحادي في سورية.
طبعاً هذا التعبير المؤلم عن واقع الحياة الطائفية التي استشرت بعد الانتخابات النيابية الأخيرة وقانون النسبية الذي جذّر حكم الطوائف ورفع حضورها في مؤسسات الدولة قاد، في الوقت ذاته، إلى نخر الطوائف من داخلها وشتت موقفها كوحدة سياسية كانت قائمة في ظل القانون الأكثري. كل ذلك يُبشّر بأزمة مُستدامة في الحياة السياسية، إذ ستتوجه جهود القوى السياسية من الآن فصاعداً نحو محاولة الاستحواذ على المساحات الطائفية كونها المعيار الوحيد في الدخول إلى جنة السلطة، وبالتوازي ستحظى الأقليات في الطوائف بحماية أكثريات تطغى على طوائف أخرى وذلك تماماً كما جرى في الساحتين السنية والدرزية أثناء تشكيل الحكومة أخيراً حيث برزت جزر ومحميات ترافقت مع وقائع شاذة عززت مظاهر العصيان على الديموقراطية والدولة والقانون وذلك كتأكيد على أن هذا المنحى هو الذي يسود في المستقبل. طبعاً المسيحيون كانوا خبروا التجربة ذاتها عند استحقاق انتخاب رئاسة الجمهورية.
هذا التحوّل الجذري الذي تحقق جراء أخطاء ارتكبها قادة من الجهتين الإسلامية والمسيحية عندما ظنوا أن قانون النسبية يؤمّن لهم مشاركة حقيقية في المجلس النيابي يمكن ترجمته داخل السلطة، ولاحقاً وجدوا أن هذه الحسابات لم تكن دقيقة.
عبر التاريخ تكمن مشكلة الديموقراطية اللبنانية في محيطها الاستبدادي، وقامت المعادلة على اعتبار أنه عندما تستنفذ الديموقراطية قوتها الداخلية إذ ذاك تنكشف أمام نمط الاستبداد المحيط بها، وهذا ما يلوح أفقه في ظل حجم التناقضات الداخلية وعودة نظام الأسد إلى تدخله السافر في لبنان.
هذه الأزمة في الخيارات على مستوى الداخل باتت محكومة بجغرافيا وخرائط مُرشحة للتغيير في كل المنطقة ولو بشكل بطيء، وباتت تتأثر بالحضور الروسي في سورية ورسم الخرائط الجاري في الشمال والشرق حيث تستبطن الحماية الأميركية للأكراد وتلك الروسية للعلويين والإيرانية للشيعة إمكانية تزايد المخاوف لدى الطوائف الأخرى وتفاقم الشعور العام بالانكشاف ما يؤدي إلى اختلال التوازن الداخلي في لبنان. إذ غالباً ما حافظت صيغة الديموقراطية التوافقية على الحدود والتوازنات عامودياً بين الطوائف وحين تتبددّ تلك الحدود من الطبيعي أن تنشأ مطالبات بإعادة التوازن.