Site icon IMLebanon

عميدا لبنان الإعتدالي الميثاقي العروبي

 

في إحدى مراحل الشدة والقلق النفسي الذي تتزايد وطأته في مجتمع الأطياف اللبنانية، تأتي مناسبة أربعين العميد الثاني عبد الغني سلام وما قيل في كلمات حول سجاياه تؤكد أنه كما العميد الأول ريمون إده، كانا على حق وأنهما كانا في ما سمعناه منهما يقولانه تصريحاً أو كتابة مقال أو مسعى، مثل زرقاء اليمامة التي بثاقب نظرها رأت ما لا يراه آخرون وبالتالي نبَّهت وذكّرت، أما أن هنالك مَن لا تنفعهم الذكرى وتنقذهم أو تهديهم فهذا شأن آخر وكانوا أنفسهم يظلمون.

وهذا الإستحضار للعميد الأول في ذكرى أربعينية الثاني أوجبه هذا التوصيف اللافت من رموز لبنان الإعتدالي الميثاقي العروبي بجناحيْهم الروحي والسياسي. ولقد بدا هؤلاء وكأنهم أمام مرحلة الشدة والقلق النفسي التي تعيشه أطياف المجتمع اللبناني، رأوا أن ما يمكن قوله عن عبد الغني سلام، هو التوصيف الذي طالما كانوا يرونه للذين يمارسون العمل السياسي والإعلامي، وجاءت الذكرى تمثل المناسبة التي يؤكد فيها الرئيس سعد الدين رفيق الحريري على أهمية «مَن يدافع عن العيش الواحد ويصون الإعتدال وينبْذ الفتنة» ويؤكد فيها مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان على الحاجة إلى مَن «يجمع ويوفِّق يوحِّد ولا يُفرِّق ينادي بالمبادىء الوطنية الجامعة ومفاهيم العروبة الصافية ويجهد ويعاند في إصلاح البيْن بين إخوانه»، ويلحظ شيخ عقل طائفة الموحِّدين الدروز الشيخ نعيم قاسم «الحالة اللبنانية» في عبد الغني سلام «التي كانت لديه سعياً حثيثاً مضنياً في قلب العواصف المحلية والعربية ليستدرك الأسوأ وليدفع بملكة التفهم بين الأقطاب وصولاً إلى التعقل والتفاهم والحوار بعيداً عن التشنج والمنافرة والتصعيد…». وأما كلام رئيس أساقفة بيروت المطران بولس مطر فإنه بمثابة التشخيص البالغ الدقة والتوازن لنظرة عبد الغني سلام إلى العروبة التي تلتقي مع نظيره في العمادة ريمون إده. وكلاهما كما تشخيص المحترَم بولس مطر يريان «تحويل كنوز العروبة من ثقافة وأدب ويقظة وشراكة إسلامية- مسيحية إلى قوة جمْع لا تُضاهى». ومثل هذا التشخيص يلتقي مع تشخيص المفتي الجعفري الشيخ أحمد قبلان لعبد الغني سلام «الذي كان يحذِّر من الخلافات العربية وتبعاتها ويجمع بالإعتدال اليمين واليسار، ويتمنى أن يتوحَّد العرب بالله والإنسان لتربح شعوبهم عدالة السماء» ومع تشخيص الرئيس أمين الجميِّل الذي ومِن وحي علاقة في زمن مضى بين والده الطيِّب الذكر الشيخ بيار والغائب الحاضر عبد الغني سلام، إستوقفنا كما سائر الذين تابعوا الساعتيْن الثريتيْن من التكريم قوله: «كلهم هنا لإحياء مَن كتب عن بيروت الأستاذة في الوطنية. كلهم من بيروت والمناطق جامع وكنيسة، مئذنة وصليب، لا تعايُش بل عيش واحد. لا مساكنة بل سكون في رمزية تجسِّد لبنان التاريخ ولبنان المصير وهذا أصدق تعبير عن تطلعات الراحل الكبير وفلسفته في الوطن…».

بعض حال العميد الثاني عبد الغني سلام من حال العميد الأول ريمون إده. ليس فقط لعدم الزواج والإنجاب. كلاهما، المسيحي الماروني والمسلم السُني، سارا على الصراط المستقيم. وكل منهما كان يقرأ أي حال ستصيب لبنان إذا كان اللبناني لن يتمسك بالعيش الواحد والمصير الواحد، وبالعروبة علاقة على نحو ما رسم ملامحها الراحلان المسيحي الماروني بشارة الخوري والمسلم السُني رياض الصلح وأخذ بها وعلى أفضل ما يكون السلوك الوطني الرئيسان المسلم السُني جمال عبد الناصر والمسيحي الماروني فؤاد شهاب في لقاء الخيمة الحدودي الذي إستباحت الشراهة السورية بعدة صيغ كما الشراهة السورية- الإيرانية لاحقاً الرمز المضيء والمعنى المتفهم لذلك اللقاء. وحتى في الموضوع الفلسطيني لم يكن العميد الثاني في مسعاه التوفيقي بين الظاهرة الفلسطينية التي تجاوزت في كثير من المرات أصول التعامل وأدبيات الإستضافة والسلطات اللبنانية، وبين الفصائل الفلسطينية الملتهية بخلافات على أمور لا تعيد وطناً مغتصباً، بعيداً عن مطالب العميد الأول بأن ترابُط القوات المتعددة الجنسية على الحدود وبذلك يسْلَم لبنان ولا ترتبك علاقاته العروبية وتعيد المقاومة الفلسطينية ترتيب أوراقها بما يحفظ وجودها الذي لم يحققه إتفاق القاهرة لهذا الوجود وكان العميد الأول ريمون إده على حق في معارضته. وكما أنه لم ينل وهو في وطنه حقوقاً يستحق نيْلها تقديراً لما إقترحه من أفكار ومشاريع من تنفيذ حُكْم الإعدام بالقاتل إلى قوانين الإثراء غير المشروع وكذلك السرية المصرفية وإلغاء الضريبة التصاعدية على الأراضي الزراعية. والأهم من هذا كله أنه نأى بنفسه عن لعبة الحرب اللبنانية وآثر الأخذ بنصيحة الرئيس أنور السادات فإبتعد إلى باريس التي كانت ملاذه الآمن ومنبره بما يعوِّضه بيروت التي كانت ساحة جولاته السياسية، فإن العميد الثاني لم ينلْ لا شخصه ولا حقه من الدولة كما أن صحيفة (اللواء) بقيت خارج لعبة الحصص الإعلانية وبذلك لم تنلْ حصتها، من دون أن يؤثر ذلك على خطها المتواصل إعتدالاً رغم الحِمْل الثقيل الذي يواكب عملية إصدارها في عهدة زميلنا صلاح سلام في زمن بدأت حقبة الإعلام الورقي المطبوع تقترب من نهايتها، لكن لا بد من المثابرة وإن إشتد الثقل على الكاهل، تماماً كما لا بد من صنعاء وإن طال السفر.

وكلاهما العميدان تحملَّا الوطأة الصحية بشجاعة وصبْر. وكلاهما في دنياهما السياسية والإعلامية عملا للآخرة. وهما من أجل ذلك إلى جانب رفيق الحريري وكوكبة من الأخيار في رحاب رب العالمين.

ويبقى أن إستحضاري للعميد ريمون إده في مناسبة تكريم العميد عبد الغني سلام هو أن العميد الذي إستقر في باريس وكنتُ من رواد مجلسه في الفندق المتواضع الذي يشغل غرفة وصالة صغيرة فيه عندما أحضر من لندن بعد زيارة تفقدية للقامة الوطنية العروبية الإعتدالية الرئيس صائب سلام في جنيف حيث آثر الإقامة، كان يأتي في جولات التباسط في التشاكي حول أوضاع الوطن المستصغَر شأنه على ذِكْر العميد الصامد في بيروت عبد الغني سلام. وكان دائماً يذكر بالخير سجاياه الوطنية وصِدق مفهومه للعروبة والموضوع الفلسطيني بالمنظور نفسه الذي لا يختلف كثيراً عن رؤيته.

رحمة الله على الجميع.