عشية مؤتمر بروكسل الذي ُعقد يوم الأربعاء الماضي بعنوان «دعم مستقبل سوريا والمنطقة»؛ وبهدف مواجهة مشكلات لجوء السوريين المتفاقمة في دول الجوار٬ كان النظام السوري يقصف منطقة خان شيخون بغاز السارين٬ الذي أوقع عدداً كبيراً من الضحايا٬ وض ّخ المزيد من اللاجئين إلى الخارج.
سارعت روسيا إلى انتشال النظام السوري من هذه الجريمة الكيميائية الجديدة٬ تماماً كما فعلت بعد قصف غوطتي دمشق عام ٬2013 عندما دفعت باراك أوباما إلى التراجع عن تهديده بتوجيه ضربة إلى النظام مقابل تفكيك ترسانة سوريا الكيميائية التي يبدو أنها لا تزال ناشطة٬ فقد أعلنت فور وقوع الجريمة أن «طائرات النظام هي التي قصفت خان شيخون٬ لكنها كانت تستهدف مخابئ للإرهابيين تعمل على صنع قذائف تحتوي على غازات سامة»؛ ما يعني أن غاز السارين لم يكن في قذائف النظام٬ بل في مصانع الإرهابيين٬ ومن الواضح أن المقصود هو تبرئة النظام من الجريمة الكيميائية الجديدة!
في غضون ذلك تحّول مؤتمر بروكسل الذي حضرته 70 دولة٬ ساحة للبكائيات وذرف الدموع على القتلى والأطفال الذين ماتوا اختناقاً٬ وتناقل العالم صورهم المرعبة وهم ينتفضون ألماً تحت حشرجات الموت٬ لكن ذلك لن ينهي مسلسل القتل الكيميائي في سوريا٬ ولن يعالج طوفان هرب السوريين ولجوئهم إلى دول الجوار٬ وخصوصاً لبنان٬ الذي كما كرر الرئيس سعد الحريري في جولته الأوروبية قبل كلمته أمام مؤتمر بروكسل٬ لم يعد في وسعه أن يتحمل أعباء اللجوء الذي يهدد بأن يتحول سلسلة من الانفجارات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية.
منذ المؤتمر الأول للمانحين الذي عقد في الكويت في يناير (كانون الثاني) من عام 2013 بدعوة من بان كي مون ضاع صراخ لبنان في البرية الدولية٬ يومها طالب الرئيس ميشال سليمان بتقاسم أعداد وأعباء اللجوء السوري٬ لكن دون أي استجابة٬ ويومها لم يكن عدد اللاجئين السوريين إلى لبنان يتجاوز المليون٬ بينما يبلغ عدد المسجلين اليوم وفق سجلات الأمم المتحدة مليوناً ونصف المليون٬ يضاف إليهم نصف مليون دخلوا دون وثائق.
في مؤتمر لندن الذي عقد في 23 سبتمبر (أيلول) من العام الماضي وقف الرئيس تمام سلام وفنّد تضحيات لبنان غير المسبوقة في استضافته عدداً من اللاجئين يساوي 40 % من عدد سكانه٬ وموضحاً أنه أنفق ما يزيد على 15 مليار دولار في ثلاثة أعوام رغم وضعه الاقتصادي المأزوم٬ لكنه لم يحصل إلا على مبلغ 726 مليون دولار٬ وفق تقرير الأمم المتحدة.
في خلال جولته الأوروبية وفي كلمته أمام مؤتمر بروكسل٬ فنّد الحريري التحديات التي تواجه لبنان بسبب اللجوء «وما يسببه من ضغوط على اقتصادنا وبنيتنا التحتية ونسيجنا الاجتماعي٬ وقياساً بعدد السكان يبدو الأمر كما لو أن دول الاتحاد الأوروبي مثلاً تستقبل 250 مليون لاجئ جديد… وإلى أن يتم ضمان عودتهم إلى بلادهم٬ فإن لبنان اليوم يوفّر خدمة عامة نيابة عن العالم!».
لكن هل يستمع العالم ويتجاوب مع حاجات لبنان الذي حددها الحريري٬ عندما طالب بقروض ميسرة وهبات مقدارها عشرة مليارات دولار لإطلاق ورشة لمشروعات تنموية تساعد في تحمل أعباء اللجوء مرحلياً؟
عشرة مليارات دولار من عالم مفلس الحس ووسط أزمة اقتصادية شاملة تقريباً٬ ومن أين ستأتي هذه المليارات العشرة إذا كانت أنجيلا ميركل تقول إن ألمانيا «هي ثاني أكبر دولة مانحة للبنان» قدمت فقط مبلغ 286 مليون يورو العام الماضي٬ وإذا كانت الدول الأخرى التي تتعهد تقديم المساعدات لا تفي بوعودها.
عام 2013 افتتح بان كي مون مؤتمر المانحين الأول في الكويت بكلمة لم تجد أي ترجمة أو صدقية فيما بعد٬ عندما خاطب اللاجئين السوريين بالقول: «أنتم لستم وحدكم٬ العالم برمته إلى جانبكم في هذه الأزمة٬ سنواصل صمودنا إلى جانبكم إلى حين إخراج سوريا من براثن هذه الأزمة٬ وإلى حين إنقاذ الشعب السوري»٬ لكن التي سرعان ما تبّين أنها مجرد ترهات؟
يستطيع لبنان أن يفيض غضباً وألماً في الحديث عن هذه الترجمة٬ وخصوصاً عندما يتذكر جولة بان كي مون التي بدأت في بيروت في مايو (أيار) الماضي٬ وشملت عدداً من عواصم المنطقة٬ وكان هدفها العمل لإبقاء السوريين حيث هم٬ وعدم انتقالهم إلى أوروبا التي كانت ولا تزال ترتعد خوفاً من تدفقهم إليها٬ خصوصاً أن الإبحار من الشواطئ اللبنانية في اتجاه السواحل الغربية الجنوبية الأوروبية يمكن أن يض ّخ مئات الألوف من اللاجئين!
على هذه الخلفية تحديداً انفجرت قنبلة الرغبة الدولية في توطين اللاجئين حيث هم٬ عندما وزعت الأمم المتحدة الصيف الماضي التقرير الذي أعده بان كي مون بشأن التعامل مع «مشكلة اللاجئين والمهاجرين»٬ ويقع في 38 صفحة٬ ويقول البند 86 منه:
«في الحالات التي لا تكون فيها الظروف مواتية لعودة اللاجئين٬ يحتاج اللاجئون من الدول المضيفة إلى التمتع بوضع يسمح لهم بإعادة بناء حياتهم والتخطيط لمستقبلهم٬ وينبغي أن تمنح الدول المضيفة للاجئين وضعاً قانونياً٬ وأن تدرس أين ومتى وكيف تتيح لهم الفرصة ليصبحوا مواطنين بالتجنّس»!
هكذا بالحرف٬ دعوة صريحة إلى تجنيس اللاجئين في الدول المضيفة٬ والأمر يشمل الفلسطينيين قبل السوريين وغيرهم٬ وهذا لا يهدد بذوبان لبنان الذي ينوء بعدد من اللاجئين السوريين والفلسطينيين يتجاوز 50 %من عدد سكانه٬ بل يفاقم مشكلة يشير إليها الحريري بلباقة٬ عندما ينبه من زيادة الضغوط على النسيج الاجتماعي والاستقرار الأمني في لبنان٬ بسبب ازدياد أعداد اللاجئين السوريين٬ وخصوصاً بعد بروز حالات من التململ والضيق عند اللبنانيين الذين يشكون من مزاحمة السوريين لهم؛ ما دفع بعض البلديات إلى إقفال المتاجر التي افتتحها سوريون دون الحصول على تراخيص!
هل يحصل لبنان من المجتمع الدولي على ما يمكن أن يساعده مرحلياً لتحمل أوزار اللجوء٬ خصوصاً في ظل الخوف الأوروبي من انفجار الوضع فيه ما يفتح شواطئه لتضخ قوارب اللاجئين إلى سواحل أوروبا؟
الاستجابة الدولية في المؤتمرات السابقة ليست مشجعة على الإطلاق٬ رغم أن استطلاعاً دولياً أجري في أوساط اللاجئين تبّين بنتيجته أن أغلبيتهم يرفضون العودة إلى سوريا٬ إما بسبب الخوف على حياتهم٬ وإما لأنهم رتّبوا أوضاعهم في لبنان!
والحريري يحاول لملمة أطراف المشكلة ليس عبر صراخه في بروكسل فحسب٬ بل عندما يطلب من وزير الداخلية نهاد المشنوق ترتيب عملية تسجيل الولادات السورية في لبنان بعد النزوح٬ ووفق الإحصاءات يبلغ عدد المولودين في لبنان مائة وعشرين ألفاً لن يقبل النظام السوري تسجيلهم وخصوصاً في ظل المعلومات التي تتحدث عن أنه يتعامل مع ملف النزوح على أساس أن عدد سكان سوريا هو 12 مليوناً فقط٬ بما يعني أن هناك عشرة ملايين لاجئ في الخارج٬ منهم مليونان في لبنان!