Site icon IMLebanon

بلوكات ومَزارع بالمزاد العلني

 

لم يكن رئيس الجمهورية ميشال عون قادراً على توقيع المرسوم 6433 «الطموح» والمثير للجدل والإرباكات. فلا هو ولا أحد سواه في السلطة يجرؤ على تَحَمُّل التداعيات الأميركية التي لوَّح بها مساعد وزير الخارجية ديفيد هيل.

 

طبعاً، تَردَّدت معلومات عن مساعٍ بذلها الفريق السياسي الذي يمثِّله الرئيس، لاستخدام المرسوم ومسألة الحدود والمفاوضات مع إسرائيل، ورقةً لتحصيل ضمانات من الأميركيين، تتعلّق خصوصاً بدعم العهد وإنقاذ رموزه من العقوبات ورفع «الفيتو» عن رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل في الانتخابات الرئاسية. أي انّ العهد أراد تحويل الملف من نقطة ضعف وإرباك في خاصرته إلى نقطة قوة.

 

أيّاً كانت دقَّة هذه المعلومات التي سعى فريق الرئيس إلى نَفْيها، فالواضح أن هذا الفريق ليس وحده يتعاطى مع ملف الحدود والمفاوضات من منطلقات مصلحية. فقوى السلطة عموماً تمارس هذا النهج، إلاّ أن هناك طرفاً واحداً يمسك باللعبة من خلف الستارة هو «حزب الله».

 

في البداية، وجَد «الحزب» نفسه مُحرَجاً في هذا الملف: هل الأضمن له أن يكون حليفه السياسي عون هو المرجعية، أم الشريك في «الثنائي» رئيس مجلس النواب نبيه بري؟

 

ثمة مَن يقول إن «الحزب» أراد التحسُّب لوجود «ثغرة» قد تصيب موقف عون أو موقف بري خلال المفاوضات، تحت الضغط الأميركي، فيقع هو في المأزق. ولذلك، قرَّر إمساك العصا من منتصفها بين الرجلين. فوقف متفرجاً عليهما يتنازعان حول مرجعية المفاوضات، ثم تدخَّل لتوزيع الأدوار بينهما، كلٌّ في مرحلة:

 

فالمفاوضات التمهيدية، التي رعاها الأميركيون، تولّاها بري، وانتهى دوره بوضع «اتفاق الإطار». وأما عون فقد تولّى تشكيل الفريق المفاوض، وعمل كمرجعية لجلسات التفاوض. فيما بقي الجانب التقني من مسؤولية الجيش.

 

إطار المفاوضات الذي «رَضِي به» بري كان سقفُه مخفوضاً، وهو النقطة 23 ومساحة الـ865 كيلومتراً مربعاً. وكان مثيراً لكثيرين أن يسكت «الحزب» على هذا «الإطار» ولا يعترض على ما فعله شريكه في «الثنائي». لكن «الحزب»، لاحقاً، عمد إلى التصعيد عندما أصبح الملف في يَدي عون، حليفه المسيحي، فشجعه على رفع السقف حتى النقطة 29 ومساحة 2240 كيلومتراً مربعاً. لماذا؟

 

عندما تم إقرار اتفاق الإطار، كانت إدارة الرئيس دونالد ترامب في ذروة تصعيدها وضغوطها. فارتأى «الحزب» إمرار المرحلة عبر بري الذي أظهر للأميركيين صورته كشيعي «معتدل» ومسهِّل للمفاوضات. ولكن، مع تبدُّل المناخات، شجّع «الحزب» حليفه المسيحي عون، ليلعب دور المتشدِّد.

 

يدرك «الحزب» أنّ إسرائيل لن تتنازل عن المنطقة الإضافية التي يطالب بها الوفد اللبناني، والتي تتضمن أكثر من 50 % من حقل «كاريش» النفطي، وأنها ستعطِّل المفاوضات عندما يطرح لبنان هذا الشرط. كما يعرف أن واشنطن ستتخلى عن دعمها للبنان في مساحة الـ865 كيلومتراً مربعاً التي يطالب بها، وستدعم الموقف الإسرائيلي، وأن لهذا الأمر تداعيات سياسية مُهمَّة.

 

في هذا الخضمّ، الجيش اللبناني يبقى وحيداً في المواجهة، بطرحه التقني المحض. وقد استنفد الأدلّة والشواهد العلمية لإثبات أن حقَّ لبنان «الطبيعي» يصل إلى النقطة 29، مدعوماً بدراسة الشركة البريطانية التي كُلِّفت سابقاً.

 

الصورة الآن: عون «طحَش» ثم تراجع. بري يتفرَّج على مرسوم لا علاقة له به. حكومةُ دياب هاربة. و»الحزب» يضبط خياراته على إيقاع المواجهة مع الولايات المتحدة من بيروت إلى طهران.

 

إذاً، أين هي المسألة الجوهرية، وطنياً، أين حقُّ لبنان في مياهه البحريَّة؟

 

واضح أنها في المرتبة الثانية. والدليل ما يجري مع سوريا. فقوى السلطة الحريصة على الحقوق في «بحر الجنوب» تسكت على ابتلاع سوريا بقعةً موازية في «بحر الشمال». وهي تتجاهل مصادرة سوريا لمزارع شبعا، ورفضَها الاعتراف بها، منذ ما قبل العام 2005 والحرب الأهلية السورية.

 

إذاً، هناك قوى في السلطة تتحمَّس للـ2400 كيلومتر مربع في البحر، جنوباً، ثم تتراجع لأن مصالحها تقتضي ذلك.

 

وفي المقابل، هناك قوى تلتزم ضوابط الـ865 كيلومتراً مربعاً ولا تجرؤ على المطالبة بـ2400 كيلومتر مربع لأن مصالحها السياسية تقتضي ذلك.

 

وهذه القوى، جميعاً، لا تطالب بشبر واحدٍ، بحراً وبراً، من سوريا، لأن مصالحها تقتضي ذلك.

 

إنها مسألة مصالح. والشعارات المرفوعة كلّها مجرَّد خِدَعٍ سمعية وبَصرية. وفي ظل هذا «الفساد الوطني»، مَن سيمنع إسرائيل من نهب الغاز جنوباً وسوريا شمالاً… ومَن سيتجرّأ على تذكيرها بالمَزارع ذات يوم، وبترسيم الحدود من عكار إلى شبعا، حيث تتداخل مئات المساحات الملتبسة و«زقازيق» التهريب؟

 

البلد عملياً في مزاد علني: بلوكات بَحريّة للبيع، مزارع برِّية للبيع… و»المزرعة الكبرى» كلُّها للبيع بالتقسيط المريح… بما فيها وبمَن فيها!