مثلما حدث في لبنان، يتحوّل الصراع السوري نزاعاً دولياً إقليمياً كبيراً. تعدَّدَ الانخراط غير اللبناني في الحرب اللبنانية، وكان العامل الفلسطيني أساسياً تدعمه قوى عربية قريبة من موسكو السوفياتية، تتباينُ مصالحها وتتبدلُ وجهتها وفق تطوّر الصراع وأزمنته.
تورطت دول عربية لمصلحة قوى اليسار المتحالفة مع الفلسطينيين، ومال الغرب وإسرائيل ودول عربية أخرى لمصلحة الميليشيات المسيحية اليمينية. بيد أن دخول النظام السوري مباشرة في الصراع (1976)، بدّل مزاج التدخلات. شهد البلد انقلاب العراق أيام صدام حسين باتجاه دعم القوى المضادة لدمشق، بما في ذلك ميليشيات «القوات اللبنانية» والجيش بقيادة الجنرال ميشال عون، عشية اتفاق الطائف.
ويتّضح في الحالة السورية انخراط أجنبي لمصلحة المعارضة، يتمثّل ميدانياً ببعض دول الخليج وتركيا إقليمياً، ودور غربي ملتبس ديبلوماسياً ولوجستياً. بالمقابل، تستنفرُ إيران إمكانياتها مستعينة بالميليشيات الشيعية اللبنانية والعراقية والأفغانية إلخ…، مستفيدة من غطاء روسي جوي، حالياً، وديبلوماسي ولوجستي، قبلاً. ثم إن الموقف الإقليمي الدولي لم يعد يقوم على موقفٍ من النظام في دمشق فقط، بل مقاربة للوجود الإيراني ونفوذه هناك أيضاً.
ما بين الهيمنة الفلسطينية على لبنان والهيمنة الإيرانية على سورية مشتركٌ لفهم ديناميات تطوّر الصراع وتحوّلات مواقف الأطراف. جرى في لبنان التخلّص من العامل الفلسطيني عبر الاجتياح الإسرائيلي (1982) وما أنتجه من إنهاء للوجود العسكري لمنظمة التحرير. ثم تدخّل الحلف الأطلسي دعماً للنظام ضد معارضيه المتحالفين مع دمشق. بالمقابل، نأى «الناتو» بنفسه كلياً عن أي انخراط مباشر في الصراع السوري، وابتعدت إسرائيل عن أي تدخل في ما لا يهدد أمنها، واكتفت بعمليات نوعية كان أشهرها ضرب أنشطة «حزب الله» التي اعتبرتها «معادية» (دون أنشطته الداعمة للنظام)، وتدمير أي منشأة سورية عسكرية تشكّل خطراً على الستاتيكو العسكري للبلدين.
تنحو الورشةُ الناشطة حالياً للخروج بما ينهي الحرب السورية إلى خلاصات لا تبتعدُ كثيراً عن الخلاصات اللبنانية. فعلى رغم دعوة طهران لمداولات الحلّ، قد يُستنتج من عدم مشاركة إيران في الاجتماعات السابقة ومشاركتها لاحقاً، أن العالم يقارب العامل الإيراني، على رغم نفوذه السوري، بصفته إلحاقياً وليس أصيلاً في ورشة التسوية الجارية، ما يؤشّر إلى عزم على تهميش الهيمنة الإيرانية على سورية ، كما جرى تهميش تلك الفلسطينية على لبنان، كأساس للوصول إلى مخارج جدية لأي حلّ مقبل (يلاحظ أن طهران دعيت كما دعيت دول أخرى، لا يقارن دورها الهامشي بالدور الإيراني في سورية). كما تعكسُ المقاربات المتوافرة في فيينا، والتي بدأت تأخذ شكل مشاريع وبرامج وبنود، توْق العالم إلى «طائف» سوري يُفرض من الخارج ويجري إخراجه بمداولات داخلية بين نظام ومعارضة.
يمثّل التدخل الروسي الحالي حالة بالإمكان مقارنتها بالتدخل السوري في لبنان عام 1976. آنذاك تدخّلت دمشق لنصرة النظام اللبناني وميليشياته، لكن سرعان ما انقلبت على تلك الميليشيات للتحالف مع الميليشيات والقوى المضادة. لم تكن دمشق لتستطيع إنجاح تورّطها اللبناني، في غياب ضوء أخضر دولي وعربي. احتاجت دمشق لاتفاق الطائف برعاية الرياض بما يمثّله من تغطية دولية للحصول على اعتراف إسرائيلي ودولي وعربي يمحضها شرعية لما أصبح، بعد ذلك، وصاية كاملة على البلد.
لم تتأخر موسكو كثيراً في إدراك عجزها عن الانخراط وحيدة في المستنقع السوري. نشّطت خطاً ديبلوماسياً يواكب جهدها العسكري ويخلّصها من كوابيس محتملة كالتي لا تنساها في أفغانستان. انطلقت من حقيقة أن جهدها حاجةٌ روسية استراتيجية وأمنية، لكنه أيضاً حاجةٌ غربية أطلسية، لا سيما في مواجهة «داعش». بالمقابل، وبغض النظر عن التصريحات الغربية المنتقدة أو المتحفّظة على التدخّل الروسي، فالعواصم الغربية وجدت في همّة بوتين مخرجاً لمعضلة تحوّلت كارثة أمنية، في ما يمثله «داعش» (وحدث باريس بارز في ذلك)، وإنسانية، في ما تضخُّه الحرب من صور دمار تصدم الرأي العام الدولي، وما تقذفه من لاجئين في حضن هذا العالم.
يبحثُ العالم عن «طائف» سوري يوكل مهمة مراقبته ومواكبته لروسيا، كما أوكل المهمات نفسها لسورية في الحالة اللبنانية سابقاً. ويُسهّل العالم المسعى الروسي في ما ظهر من مرونة أبداها الغرب ودول المنطقة في مسألة البقاء الانتقالي الموقت للأسد على رأس السلطة في دمشق عشية زيارته موسكو، كما في القبول بدعوة طهران لمداولات الحلّ غداتها.
سيمنح العالم وكالة لروسيا وفق شروط تحددُ حجم الدور الروسي وآفاقه، بحيث تلعب موسكو دوراً وفق دفتر شروط محدد ودقيق. تعرف موسكو ذلك وتعمل بهمّة عالية لإقناع دول المنطقة والغرب بجدارة مسعاها وحقيقة دورها بعد أن تمّ إقناع إسرائيل بذلك. ولا شك في أن موسكو تضع في صدارة أوراق اعتمادها عمليةً تنهي وجود الأسد لاحقاً على رأس السلطة (وفق ما بدأ يتسرب مما سمعه الأسد خلال زيارته الشهيرة لموسكو)، كما تنهي الهيمنة الإيرانية على البلد، بما يفسّر توتر طهران وارتباك «حزب الله»، لا سيما نزوعه مؤخراً نحو التهدئة وتحري الصفقة اللبنانية الشاملة.