«الحال لا تسرّ الخاطر» جملة يتبادلها اللبنانيون في هذه المرحلة تعبيراً مختصراً عن حال البلاد، والوطن، والناس، على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم، وانتماءاتهم الحزبية والسياسية.
حدث أن ارتكب وزير الخارجية جبران باسيل خطأ في حق رئيس مجلس النواب نبيه برّي، ثم حدث أن خرج الخطأ من موقعه ليعمم على الرأي العام اللبناني والعربي وعالم الاغتراب.
وعادة، في الشؤون اللبنانية المحلية، كما في جلسات مجلس النواب، تثور العصبية السياسية أحياناً، فيدوي كلام كبير يواجه بكلام أكبر، ويتوقف الأمر عند حدود. لكن الوزير اللبناني استغاب رئيس المجلس بكلام من خارج اللياقات السياسية، ثم وقع في خطيئة مخالفة الأصول، وأولها الاعتذار، ولم يعتذر، إنما اكتفى بإبداء الأسف ممتنعاً عن الاعتذار. وما كان تفسير لذلك سوى الإمعان في التحدي، وهذا ما أدى الى إنتقال المشكلة من مدارها المحدود إلى الشارع وإلى الأوساط الشعبية في أحياء من العاصمة بيروت ومناطق أخرى.
كان من المتوقع أن يبادر رئيس الجمهورية الجنرال ميشال عون إلى احتواء المشكلة في وقتها، وأن يُعطي الوزير المخطئ أمراً بالمبادرة إلى الاعتذار من رئيس السلطة الاشتراعية المؤتمنة على دستور البلاد واشتراع القوانين، وحماية الحقوق والحريات العامة التي تتوقف عند حدود حريات وحقوق الآخرين وحرماتهم، فكيف إذا كان المعتدى عليه رئيس مجلس النواب بالذات. لكن الرئيس عون إكتفى بإصدار بيان دعا فيه إلى التسامح، معتبراً أن ما حدث أساء إلى الجميع، وما حصل على الأرض خطأ كبير بني على خطأ.
لكن كان هناك، وما زال، كلام يتوجه إلى وزير الخارجية من مختلف الجهات والمقامات الشعبية والسياسية خلاصته:
يا سعادة الوزير: اعتذر، أو اعتزل.
وما حدث، حتى الآن، ليس سهلاً. إنه إنذار بشرخ كبير وخطير في الوضع السياسي اللبناني المتأزم، والتوقعات مبنية على حسابات ومخاوف تتداعى من الماضي البعيد، لكن الحدث يبقى جرس إنذار لمن يجازف بإثارة زوابع طائفية ومذهبية.
وثمّة تساؤلات كثيرة ترددت في الأيام الأخيرة بعد لغم «الفيديو» الذي إنفجر في خطاب الوزير، ومنها:
لماذا لم يحسم الرئيس عون المشكلة بفرض واجب الاعتذار على الوزير المخالف؟… لكن كرة الأزمة تدحرجت سريعاً واتخذت أبعاداً أخرى، وبدأت الانعكاسات السلبية في الشارع، لكنها ما زالت مضبوطة إلى حد أما على الصعيد السياسي، إذ خرجت إلى العلن علامات التحذير من المس بميثاق الطائف، دستور لبنان، وغلاف الجمهورية، على ما فيه من إنتقاص من حقوق طوائف قليلة العدد نسبياً.
تلك الطوائف كانت قد رضيت من خلال قادتها وممثليها الذين شاركوا في المؤتمر شبه الدولي الذي عقد في مدينة «الطائف» السعودية في العقد الأخير من القرن الماضي، بما كتب لها من حقوق تتوقف عند حدود مناصب رئاسية، وتتدنى لتنحصر في وزارات خدماتية وإنمائية وتربوية. ويتذكر بعض النواب الذين شاركوا في ذلك المؤتمر كيف وقف أحــدهم (وكان ممثـــلاً طائـــفة لبنانية قليلة العدد نسبياً) وخاطب المؤتمرين قائلاً: أيها السادة، أنا لا أطالب برئاسة جمهورية لبنان، ولا برئاسة مجلسه النيابي، ولا برئاسة حكومته، حتى ولا بوزارة الخارجية، أو وزارة المال، لكني أقول لكم إن مرافقي في لبنان يحمل الجنسية الأميركية مع جنســـيته اللــبنانية. هذا المرافق، أيها السادة، يحق له أن يترشح لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية، وأنا المنتخَب من الشعب اللبناني لا يحق لي أن أتجاوز حدودي المذهبية في دولة بلادي! ومع ذلك فإن نواب الطوائف اللبنانية الصغيرة نسبياً، هم أشدّ الحريصين على ميثاق الطائف.
لقد تقسم اللبنانيون طوائف، ومذاهب، وكتلاً، وجماعات، وأفراداً، على مراجع وأحزاب سياسية خطاباتها وطنية باسم جميع اللبنانيين، أما خدماتها ومنافعها فإنها وقف على من يلتزم خطابها ويردده.
مضت سنة وشهران على إنتخاب الجنرال ميشال عون رئيساً للجمهورية، ولم يشعر اللبنانيون بعد بالحد الأدنى من التقدم، أو التحسن في حياتهم اليومية، فالكهرباء، والمياه، والنفايات، شاهدة على واقع الحال، وآخر مثال على ذلك جاء مع العاصفة الثلجية التي ضربت لبنان (وهذه من نعم الطبيعة على اللبنانيين) فماذا كانت النتيجة؟.. لقد حملت الأمواج العاتية كل تلال النفايات الفائضة عن «المكبات» وقذفتها على شواطئ المدن الساحلية. كانت رسالة قاسية المعنى لمن يعنيهم الأمر: هذه بضاعتكم رُدّت إليكم!
وقبل العاصفة كانت مبادرة مشكورة من رئيس الحكومة سعد الحريري، وبلدية بيروت، في ليلة رأس السنة، حيث تلاقى اللبنانيون من العاصمة والضواحي والجبال القريبة لإحياء ليلة من ليالي لبنان في زمن عزه الغابر. وفي تلك الليلة تلألأت بيروت بأنوارها وأفراحها، وفنونها، وبمدنيتها، وسلوكها، ونظامها، واستعادت، ولو لساعات، الزمن الجميل.
لكن، ماذا كان في اليوم التالي؟ الفراغ، والصمت. فبعد تلك الليلة استذكر القدامى الباقون من روّاد بيروت ليالي زمان، ومنهم التاجر، والسائح، والزائر، والعابر، والشاعر الذي استذكر بيتاً للشاعر اليمني (عبدالله البردوني) عن عاصمته «صنعاء».
ويسألونك عن صنعاء يا أبت؟
حلوة، عاشقاها السل والجرب
أما بيروت فإنها لؤلؤة عاشقاها الجمود والكساد.
هذا واقع عاصمة لبنان من دون مجاملات يرفضها معظم التجار، ومؤسسات الإقتصاد والإنتاج والتسويق… وإذا كان هذا هو حال العاصمة، فكيف أحوال المناطق القريبة والبعيدة، وقد غاب عنها السياح والمصطافون خلال كل فصول السنة.
هي أزمة متدرجة منذ سنوات غير قليلة. واللبنانيون، على طبيعتهم، ما يزالون متفائلين، على رغم من كل المصاعب، فكل المصاعب تهون ما دام لبنان محصناً باتفاق الطائف، حتى لو قيل إن لبنان «طائف» على شبر ماء. فما دامت حرية القول والنشر والتظاهر، والإضراب، مضمونة، تبقى للبنانيين الإمكانات والسبل والفرص للتغيير.
هي الأمنيات والآمال، والأحلام تتكرر، ولبنان صامد، واللبنانيون صابرون.
كان الشهيد الكبير كمال جنبلاط يقول: «التاريخ هو ما يحصل وليس ما يُفترض».
لا يكفي أن يُكتب التاريخ (كما حصل) المهم أن يُقرأ بنيّة البحث عن الحقيقة، وقبولها كما هي، وهذا أمر ليس سهلاً إلا على الكبار من ذوي العقل والشجاعة والتسامح، حتى الشهادة، في سبيل الوطن، وتاريخ لبنان القديم والحديث حافل بشهادات كبار من كل الطوائف، والمذاهب، والفئات، قضوا، ومضوا، إلى قلب التاريخ.
ويبقى»الطائف. الطائف. الطائف.. الميثاق. الميثاق. الميثاق. عودوا إلى الطائف، وإلى الميثاق». هذا ما يردده الباقون من جيل الطائف وميثاقه. فالواقع اللبناني إبتعد كثيراً عن جوهر ذلك الميثاق، والشواهد – الحقائق كثيرة:
سقف الدولة ينخفض، وسلطة الطوائف والمذاهب الى إرتفاع، وأهل العلم، والخبرة، والكفاية، والصدق، والأمانة، والشجاعة، الى الوراء. وأهل المال الحرام، والنفوذ الفج الى الأمام. والحقوق المشروعة، كما الحريات الواعدة المدركة شبه مكبّلة في فراغ السلطة. والثقافة في بعض مساراتها المستجدة تتبدل وتمضي في اتجاهات معاكسة لتيار العصر والحداثة العقلانية. والقوانين تُكتب، وتُصدّق، ثم تُعرض للمطالعة، والإدارة المسؤولة تفقد شجاعتها، أو ضميرها. والفقر، والمرض، والبطالة، والتلوث، والغش، وهبوط المعنويات الوطنية، كل هذه العلل باتت محسوبة من ظواهر الطبيعة.
إنه الفراغ الرمادي في أكثر من منطقة، ومدينة، حيث تنتشر المدارس الابتدائية، والثانوية، والمستشفيات، والجامعات، على أسماء الطوائف، وتغيب الدولة عن النظر والسمع.
وإذا كانت هذه الخدمات والنشاطات لا تتعارض مع نص الدستور، وإذا كانت تعوّض عن عجز الدولة، فإنها، بالنتيجة، تتعارض مع معنى الدولة، بل تكشفها وتفضحها بغيابها.
وسوف يمضي وقت طويل قبل أن تصفّى مشكلة وزير الخارجية. وفي خلال هذا الوقت الضائع يستعد اللبنانيون لانتخابات نيابية يعرفون نتائجها مسبقاً. إنهم سيعيدون ارتكاب الخطايا عينها، وسوف يعودون إلى الشكوى من حالهم… إنه القدر اللبناني الثابت والمكرس.