مروّع ما شهده لبنان الاثنين الماضي. الأمطار الغزيرة ليست أمراً غير متوقع في الشتاء وكذلك السيول، لكن أن تتحول الشوارع والساحات إلى بحيرات وتجرف المياه بيوت الناس وأملاكهم، وتغرق السيارات وداخلها مواطنون خرجوا وراء رزقهم، فذلك هو السقوط الكبير لكل السلطة السياسية التي أنفقت من جنى المكلفين مليارات الدولارات على البنى التحتية فتبين أنها ذهبت إلى الجيوب! وقبل أشهر قليلة روّع لبنان موسم الحرائق يوم اجتاحت النيران المنازل والأملاك، وكانت السلطة تتفرج، وفي المرتين تكرر سقوط الحكم ومعه كل الطبقة السياسية المسؤولة عن أخذ لبنان إلى الهاوية.
بعد 57 يوماً على النزول الاحتجاجي للناس الذين غطّت حشودهم الساحات، ما زال النهج المتبع من الجهات الرسمية دون أي تعديل؛ مشاريع النهب التي تعود إلى ما قبل 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي لم تتوقف، والهدر يتفاقم، وآخر الفصول كان صفقة البنزين السيئة التي أتاحت دخول وافد جديد إلى كارتل المحروقات بتكلفة إضافية 20 دولاراً للطن (!!) مما سيوفر ربحاً إضافياً للوافد الجديد المقرب من وزير الخارجية لا يقل عن 4 ملايين دولار سنوياً، ويتم ذلك والبلد الذي يئن من الجوع وصل إلى حافة الاستجداء!
وهكذا السلطة التي أخذت البلد إلى القاع تعيش حال نكران حيال المعطى الجديد الذي باتت تشكله ثورة الكرامة، فتبرز الكيدية لدى أهل الحكم الذين يتنصلون فرادى من المسؤولية عن التدهور العام في الأحوال الاقتصادية والمالية، والكل يتهم الكل، ولا يتوانى البعض تارة عن تحميل المنتفضين أسباب تفاقم الوضع، وطوراً رمي أسباب التدهور على اللاجئين السوريين فتطلق المواقف العنصرية وتنظم ضدهم وقفات هزلية أمام مقرات البعثات الدولية. كل ذلك يجري في حين لم يعد ممكناً القفز فوق كماشة الواقع المالي – الاقتصادي التي تطبق على العباد… والأنكى أن ما يبرز إزاء الأزمة الخانقة يفيد بأن مرحلة الفراغ مرشحة لأن تطول نتيجة تفاقم صراع المحاصصة الطائفي بين أطراف السلطة من جهة حيث يعدّ كل طرف أنْ لا إمكانية للإنقاذ من دونه، ومن الجهة الأخرى توافق كل هذه الأطراف على محاذرة الإقدام على أي خطوة في التأليف تحاكي تطلعات الثورة ومعها الأغلبية الساحقة من اللبنانيين التي تعيش غضباً مكبوتاً.
تحدد الموعد الجديد للاستشارات النيابية الملزمة الاثنين 16 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، بعد احتراق ورقة ترشح سمير الخطيب، وقبله إبعاد بهيج طبارة، وسقوط ترشيح محمد الصفدي، أي بعد سقوط كل محاولات «القصر» ربط التكليف بتشكيل حكومة تكنوسياسية تطلق يده. تبعاً لذلك؛ يتردد أن التكليف نيابياً بات محجوزاً لرئيس حكومة تصريف الأعمال الحريري ولا يملك الثنائي: «القصر» و«حزب الله» تجاوزه، لكن ما من جهة متابعة تعوّل على أن أمراً إيجابياً في الأفق لجهة إمكانية توافقهم على حكومة مغايرة لتلك التي أسقطها الشارع، وعليه تبدو القصة أبعد من استشارات ملزمة، تأخرت الدعوة إليها أكثر من 40 يوماً، وأبعد من ممارسات تمعن في التنكر للدستور وتُحرك الوتر الطائفي ويتشارك فيها «القصر» و«الحزب» ودار الفتوى… وسواهم.
هناك ثورة عارمة كل محركاتها داخلية معيشية واقتصادية، لكنها واضحة في أبعادها السياسية عندما حمّلت المسؤولية لكل أطراف التحالف الطائفي، وقالت بالفم الملآن أنْ لا ثقة بكل التركيبة السياسية، وهي التركيبة التي جهد «حزب الله» عقداً كاملاً لإقامتها، بما عزز من تغول الدويلة على الدولة فتسرع الانهيار وحاصرت الأزمة كل الأطراف، وصوبت الثورة على الجهات المسؤولة عن تجويع الناس ووضع البلد على شفير الإفلاس، أي التحالف الطائفي الذي استغل السلطة وامتهن الفساد وتمادى في نهب المال العام واتبع السياسات التي دمرت الشرائح الوسطى وأفقرت البلد، فكان أن فتحت هذه السلطة، التي لم تقر بانتهاء صلاحيتها، المعركة مع المواطنين ومع الثورة، فكانت العقوبات الجماعية التي يقوم بها تحالف كارتلات المصارف والمحروقات والقمح… إلخ.
والأمر اللافت أن الكارتل المصرفي المحمي يهين المودعين ويمتهن كراماتهم بعدما حجز تعسفاً الودائع والمدخرات، ولا يبدو أن الجهات المصرفية توقفت أمام الأبعاد المتأتية من تداعيات خسارة المصارف ثقة الناس.
والأمر اللافت والخطير تمثل في الحرب المفتوحة من جانب السلطة وأجهزتها لسرقة الثورة، فبعد سيل البيانات المشبوهة وانكشاف كثير من المتسلقين الذين زحفوا من أجل الفوز بلقب «صاحب المعالي»، وزرع خيام لأطراف «الممانعة» في وسط بيروت احتياطاً للتخريب، فإن الخطر الأكبر برز من بوابة طرابلس حيث تكررت محاولات حرف الثورة عن مسارها السلمي من خلال استغلال البطالة المتفاقمة والجوع المقيم في منطقة نحو 60 في المائة من أهلها تحت خط الفقر. ما جرى في الأيام الماضية بدا انتقاماً من العاصمة الثانية للبنان، التي ثارت ضد الفقر والتهميش، واستعادت وجهها ومروءتها ونبلها فإذا هي الفيحاء، وليست «قندهار» كما في المحاولات المشبوهة لإلباسها سواداً يشوه حقيقتها… فكان الاستهداف المتكرر.
سقط الرهان على تعب الثوار، لكن البلد الذي لم يكسره عدو محتل تهدده بالكسر سلطة التجويع التي دفعت بلبنانيين إلى الانتحار، وفيما يقترب لبنان من حال الجوع، يبدو الآن أمام أرجحية فراغٍ طويل في السلطة، وأمام تعمق الأزمة بين القوى الطائفية التي تراهن على الفوضى العامة المنفلتة التي تُدخل البلد في انهيارات شاملة، وتأسيساً على ذلك تمعن في إدارة الظهر لأبسط حقوق المواطنين وكأنه لا شعب ثائراً منذ 57 يوماً. هذا الوضع بات يحتم شعبياً أكثر من نقلة في التنسيق الميداني وربما البدء في وضع جدول أعمال التحرك العام أسوة بالتجربة السودانية، على أن يترافق ذلك مع تمسك الثورة بمطالبها لإنقاذ البلد، وأهمها: لا أقل من حكومة مستقلين من أصحاب الخبرة والكفاءة والنزاهة ومن خارج منظومة الحكم الطائفية، ولا أقل من انتخابات مبكرة وفق قانون يضمن الإرادة الحرة للناخبين، بما يتيح إعادة تكوين السلطة، حتى يكون متاحاً ضمان الذهاب إلى رسم سياسات اقتصادية اجتماعية تحمي مصالح الأكثرية الساحقة من اللبنانيين.