في خضم الاحتضار اللبناني المشهود، تخرج الكلمات عن دلالاتها وتغادر المعاني لتستقر في مواطن السكون. تفقد سحرها وفعله٬ لتموت وهي متلبسة بصمتها بين السطور. تتهاوى من حافة الإفصاح إلى قعر العجز عن التعبير٬ ويضيع معها الحال والصفة والتمييز. في الأصل كان الكون بفعل الكلمة وكونها٬ ولكن قيامة لبنان المستحيلة لا تكون بالكلمات ومشتقاتها بل بالأفعال المفقودة. في البدء لم يكن لبنان كلمة٬ بل كان زعماء وطوائف؛ وفي الوسط كان فساداً وحروباً٬ وفي الخاتمة سيبقى معتل الآخرة والمصير.
لبنان بيئة موبوءة، بشتى أنواع التلوث، في البر والجو والبحر والإنسان، وفي الكلمات. في بيئة اللبنانيين الحاضنة، تنقلب الكلمات على دلالاتها، وتجافي مرادفاتها. تستقيل من وظيفتها، تتخلى عن مهمة إيصال المعاني. تضع جانباً سحرها والبلاغة. تهدم بناها العميقة وصياغاتها الفاعلة، وتطرد عن نفسها سحر البيان وجاذبية التأثير. تستوطن كصرخة في وادٍ. تستقيل من انطوائها على أي شكل من الوفاء والعهود. وتتوانى عن اتصالها بمخاطبين موصولين بالعصبية والولاءات، وهم صم بكم عميٌ لا يفقهون.
في لبنان، ماتت الكلمات بموت ضمير المتكلم. فقدت تأثيرها في الصيغ الفعلية، وأصبح مدلولها فساداً زمنياً بصيغة الماضي والحاضر والمستقبل. لم يعد يُجدِ الكلمة اسمها وحرفها وفعلها. لم يعد في دلالاتها سوى صمت الحملان أو ضجيج المفسدين. تحولت الأقوال الى أداة للتلون والتلطي والنفاق، ووسيلة للوصول إلى قلوب الساذجين. استبدلت حقولها الدلالية بمخزون هائل من الكذب والكراهية، فانقلبت الى شجار يستثير غضب المتجمهرين، وقناع يستر قبح النيات والقلوب.
في لبنان، الكلمة قول يُعادي الفعل، ولفظ ينقلب على المعنى، ومشار يعاكس المشار إليه، وإضافة لا تمتّ بصلة إلى الحال، ودلالة تدل على التعمية، وحركات مليئة بالنصب والرفع والجر والجزم. الكلمة في بلاد الحرف مسافة تجعل من الشيء ضده. تحيل الدولة إلى مزرعة، والمرتكِب الى زعيم، والظالم الى مضطهد، والشعب الى قطيع، والعقل إلى غريزة، والعاطفة إلى كراهية.
في موطن الأبجدية الأول، تموت الكلمات على ضفاف القيم المتهالكة. يكفي أن يستنبش الكلام كل مكنونات الكراهية حتى يكون فاعلاً، ويكفي أن يكون منمّقاً حتى يتصف بالصدقية، وكلما كان كاذباً فهو أكثر تأثيراً في نفوس المخاطَبين. فبالإمكان أن يفعل الكذب فعله للمرة الألف، كما لو أنه في المرة الأولى. المفسدون يوغلون في فسادهم والمصلحون صامتون. الكلام بات مثقلاً بالضجيج، فيما انعدمت الكلمة السواء واستوطن مكانها الكلام السوء.
جاء في إنجيل يوحنا أن «الكلمة كان عند الله»، وأن «الكلمة صار جسداً وحلّ بيننا». في لبنان ماتت الكلمة الطيبة وحلت مكانها الكلمة الخبيثة التي ما لها من قرار، فغاب الله عن الضمائر الظاهرة والمستترة، وكبُر مقتاً عنده أن اللبنانيين يُكثرون من قول ما لا يفعلون.
يحتاج لبنان إلى عجيبة من قبيل «كُن» حتى يصبح ويكون.