أقر المجلس النيابي اللبناني مشروع قانون الانتخابات النيابية الجديد، وبات في حوزة اللبنانيين مادة سجال إضافية. تسابق أقطاب السياسة لإعلان أبوّة الإنجاز، إذ كما هو معروف تاريخياً: للنصر آباء كثر، أما الهزيمة فيتيمة، وهي في بلادنا العربية لقيطة مجهولة الأبوين.
وما سارع وجهاء التشكيلة الحاكمة والمتحكمة إلى إعلانه، وكل من موقعه، هو الاعتراف بأن ما تحقق تشريعياً جاء دون المستوى المطلوب! ودون الآمال التي علّقها اللبنانيون على العهد الجديد، وعلى قدرته على مباشرة الإصلاح المطلوب، لذلك، وكما جاء على لسان الطائفيين الرسميين إياهم، فإن قانون الانتخاب الذي أبصر نور إقراره، هو أفضل الممكن!
أول نذر «العهد الإصلاحي»، جاءت من وسط المدينة، بيروت، فهناك اعترضت آلة القمع «الإصلاحية» المعترضين على إنجاز ممثليهم في الندوة البرلمانية، وهناك وإثر الواقعة، بادر أكثر من جهاز أمني لغسل يديه من مسؤولية قمع المحتجين، وعمد إلى رمي التهمة على سواه، وبقدرة قادر، اكتشف المندِّدون بالأفعال الرسمية اللبنانية أن القمع طائفي غير رسمي، وتأكّد هؤلاء مجدداً، أن توزيع السلطات ومقراتها، ليس شأناً وطنياً عاماً، بل هو قسمة طائفية ومذهبية واضحة، ولذلك، ونزولاً عند أحكام الميثاقية، ومنعاً للإخلال بالانسجام الوطني… (إقرأ طائفياً) وضروراته، ينبغي التصدي لكل هجوم سياسي يستهدف واحداً من مقرات الصيغة الطائفية اللبنانية، ويمسّ مسّاً مباشراً أو غير مباشر، بخصوصيات وأملاك وملحقات، إحدى الطوائف اللبنانية الكريمة!
عود على بدء، صحيح كان قانون الانتخاب الجديد أفضل الممكن، وصدوره لم يكن بسبب الحكمة الطوائفية، بل لأن حقيقة ملموسة تجسدت أمام عيون الجميع وقالت بالحروف الواضحة: إن الغلبة في لبنان ممتنعة، أقله حالياً، وأن الكسر الطائفي مستحيل، وهذا استنتاج دائم، وأن التغلب موقت، وهذا ما حملته خلاصة الحروب الأهلية المتناسلة. بعد كل ذلك، ليكن الاعتراف بأن حسابات الحصص كانت هي السائدة، وأن التطلع إلى احتلال مقعد طائفي وازن، ضمن التشكيلة الطائفية العامة، سيظل الهدف الأهم، وأن لبنان المتعارف عليه، مسيحياً وإسلامياً، سيصير غير معروف إذا ما قيِّض لطائفية ما أن تكسر قاعدة اللقاء الطائفي «الوطني» الذي ما زال صعباً، في تأمين ديمومة حياته، والذي سيصير مستحيلاً جمع حبات عقده، إذا صار خيط الجمع خيط قيد، أو إذا قرأ فيه جمع طائفي بعينه، خيط إعدام.
قانون الممكن هو قانون الضرورة اللبنانية الآن، وفي هذه الفترة السياسية الكيانية المهددة بأكثر من خطر داخلي وخارجي. والضرورة اللبنانية هي من الصنف الذي لا ينتمي إلى مثل سائد هو: «إن الضرورات تبيح المحظورات»، بل هي تتصل بوشائج متينة بابتكار صيغة لبنانية بديلة لذات المثل السائر مضمونها: إن الضرورات تحتم الضرورات، والاحترام هذا يرتبط بمبدأ الاستقرار فوق الجغرافيا اللبنانية، ولعل طلب الهدوء هو الهدف الأمثل حالياً، ففي ظله يبقى متاحاً تبادل شيء من السياسة المنقوصة والمعطوبة، وفي ظله يكون يسيراً السعي سلمياً إلى مراكمة خلاصات وموازين قوى خارج توازنات الطوائف، وخارج معادلاتها التي تجعل كل استقرار حبيس مشيئة استقرارها، وتحتفظ بسلاح تخريب كل استقرار إذا ما استشعرت خطراً يحيق بديمومة مصالح استقرارها.
حاجة اللبنانيين إلى فرصة للتنفس ماسة، وحاصل جمع التمديد للمجلس النيابي الحالي ومدّة صلاحية المجلس النيابي المقبل، يصل إلى خمس سنوات، وهذه فترة زمنية سيجعلها ممثلو «الأمة اللبنانية» فاصل مناكفات وصراع محاصصات جديدة، ولن تكون حسب الادعاء السائد، باباً للدخول إلى إصلاحات وطنية عامة. وللتذكير لقد كرس اتفاق الدوحة عام 2008، حق النقض المتبادل بين الطوائف، فتعطلت الحياة السياسية الداخلية، وما زالت معطلة بالقياس إلى مفهوم السياسة، وسيتكفل قانون «النقائض» الحالي، بإعطاء زخم لحق النقض الماضي، وسيجدده ويضيف إليه، إمعاناً في حرب المغانم الطائفية، وشللاً متزايداً في حركة استعادة بعض من مظاهر وضرورات ومقومات الدولة الوطنية. المبادرة إلى تأسيس ردود، على شكل فعل وليس في صيغة رد فعل، ملقاة على عاتق قوى أخرى، مدنية وشعبية وحزبية… وهذا حديث وطني آخر، له أكثر من صعيد.