الحكم في مأزق والنظام السياسي في أزمة، ووحده الإفقار يتسع. التكليف بتأليف الحكومة كشف المستور، وكثرة الطباخين على حساب الدستور والصلاحيات أظهرت هشاشة البلد وقوة زعماء الطوائف، الذين تسببوا نتيجة نظام المحاصصة الطائفي، بارتفاع عجز الخزينة في النصف الأول من 2018 إلى 234.5 في المائة وزيادة النفقات الحكومية إلى ما يقارب ملياري دولار مقابل تفاقم الركود وانخفاض العائدات رغم رفع الضرائب. حتى المطر، وهو نعمة ينتظرها الناس، تحول مأساة مع فضيحة انسداد متعمد لقنوات الصرف الصحي في بيروت وطوفان شوارع العاصمة بها. أمام الصفعة المدوية والإمعان في استباحة الحقوق يسأل المواطن المنتهكة حقوقه: أين القانون؟ وأين المؤسسات؟ وإلى متى لا تقوى السلطات على صرف المياه المبتذلة؟!! ومن أين المنطلق لخلق جبهة الدفاع عن حقوق المواطنين، جبهة الدفاع عن الدستور وإلزامية تطبيق القوانين؟ طبعاً أول ما يتبادر مثالاً هو التجربة الجبهوية المرة لـ«14 آذار» التي ولدت من رحم انتفاضة الاستقلال ومن نزول أكثر من مليون ونصف المليون لبناني إلى الشارع لإنجاز الاستقلال الثاني بخروج المحتل، واستعادة الدولة المخطوفة وبسط السيادة دون شريك، وتحقيق العدالة… والانتقال باللبنانيين من حالة رعايا إلى مواطنين. لكن ممارسات القوى الطائفية أضاعت الإنجاز!
اليوم البلد ممسوك من النظام الإيراني بواسطة حزب لبناني مسلح ومتغلغل في كل مفاصل الدولة وخطر الانهيار العام مع مقصلة العقوبات يحدق به من كل صوب، والحكم في وادٍ والمواطن في وادٍ آخر، والتحدي يكون ببلورة إطار سياسي يجمع رافضي استتباع البلد، ورافضي نظام المحاصصة الطائفي لإطلاق مسيرة إنقاذ من اليد الإيرانية الثقيلة التي حلت مكان الاحتلال السوري. قيام صيغة جبهوية ليست بالأمر الجديد على اللبنانيين، فلطالما تشكلت الجبهات حتى من قوى متنافسة، كجبهة عام 1953 التي أطاحت الرئيس بشارة الخوري إلى الجبهات التي نشأت عشية الحرب الأهلية وخلالها: الحركة الوطنية مقابل الجبهة اللبنانية… وصولاً إلى «14 آذار»، وجبهة «انتفاضة الاستقلال» التي هزت نظامين أمنيين في لبنان وسوريا، لكنها سرعان ما وقعت في قبضة القوى الطائفية التي صفّرت هامش المستقلين الديمقراطيين لتتحول إلى خدمة مصالح ضيقة لهذه القوى حتى انفرط عقدها وانتقل أبرز أركانها إلى تحالفات نقيضة بالكامل. لم تنجح الشطارة في تغطية ادعاء البعض أنهم ما زالوا متمسكين بقيم الانتفاضة، فهم قدموا مصالحهم الحزبية والطائفية وحددوا أولوياتهم حصة في كعكة الحكم غير مهتمين حتى بتوفير التبريرات لجمهور تعرضت آماله للخيانة. وقد أبرزت الانتخابات الأخيرة الانقسام الكبير: المتحاصصون وجمهورهم الطائفي كمستفيدين من جنة السلطة من جهة، وباقي المواطنين المقهورين بسلطة المحاصصة من جهة أخرى.
توصيف الواقع السياسي طريق تُفضي إلى تشخيص الحل، والمهمة تكمن في كيفية تأطير وتجميع المعارضين؛ جماعات وفعاليات وأفراداً، كنتيجة لغياب الأحزاب السياسية والنقابات الجدية الممثلة للناس، في إطار جبهوي ديمقراطي يساعد في التصدي للمهام المطروحة في اللحظة الراهنة. ومن أول الشروط بلورة خطاب سياسي ينطلق من الدستور ووثيقة الوفاق الوطني ومن التزام الشرعية الدولية، فيحاكي وجع المواطنين ويجمع ولا يفرق، وفي الوقت عينه لا يغيّب الأساسيات.
العنوان الأول يكمن في تقديم شعار استعادة السيادة بواسطة القوى الشرعية والسلاح الشرعي واستعادة القرار السياسي بالتصدي لكل من ينتهك السيادة من عدو كامن إلى متدخل طامح. فتتم إعادة الاعتبار إلى الحياة السياسية والمؤسسات الرسمية الإدارية والقضائية والرقابية والمالية، والتزام الشفافية في العمليات الانتخابية والحرص على إدخال تعديلات جدية على قانون الانتخاب النسبي كتوحيد المعايير لضمان ولو الحد الأدنى من عدالة التمثيل.
انطلاقاً مما شهده لبنان في السنوات الماضية وخصوصاً الآونة الأخيرة، هناك أولوية تكمن في الدفاع عن الحريات العامة وصون الحرية الفردية والحق في العمل السياسي والنقابي بعيداً عن أي تدخل، واعتبار قضية الحرية محورية من أجل بقاء لبنان للانتقال من دولة الرعايا إلى دولة المواطنين. الوجه الآخر يكون بإيلاء أهمية لتحسين الشروط الحياتية للمواطن من خلال ضمان الشروط الوظيفية وكشف الفساد المستشري في كل دوائر الدولة من أعلى الهرم إلى أسفله.
بوسع المتابع لمس النقمة العارمة في كل الأوساط وكل المناطق، والجلي أنه كلما تراجع الاستثمار في التوتير الطائفي تبرز الإدانة لكل تحالف أهل السلطة الطائفي، ما يعني أن الخطاب الجبهوي يجب أن يتوجه لأوسع الأوساط النقابية والجامعية والحيثيات المناطقية، خصوصاً الشباب، ونبذ الخطاب الشعبوي، مع الأخذ بالاعتبار أن ما كان جمهور «14 آذار»، ما زال الأكثر تمسكاً بالسيادة ورفضاً للهيمنة، على الرغم من صعوبات الاستقطاب نتيجة الخيبات والانكسارات بفعل ممارسات القيادات الحزبية الطائفية لقوى «14 آذار»… هنا يكمن تحدي صياغة لغة سياسية جديدة بعد الذي جرى في عام 2015 من استقطاب حول شعارات مطلبية تم الالتفاف عليها من أطراف السلطة وأحصنة طروادة! نفتح مزدوجين للتأكيد على أن الأحزاب الطائفية جمعتها المحاصصة، ومن كان قد ركب موجة انتفاضة الاستقلال صار اليوم خارج الرهان على عمل جبهوي وإن كان الرهان قائماً على بعض جماهيرها الرافضة للاستتباع الخارجي. المهمة شاقة وليست مستحيلة شرطها بلورة حركة اتصالات دائمة وحوارات وانفتاح على أفكار الآخرين ورؤيتهم لشكل العمل الأنجع، حتى يصبح ممكناً إنجاز اختراقات جدية في كل الأوساط.
لقد صحّر الاحتلال السوري الحياة السياسية والنقابية وألحق تشوهات بالعمل المدني وفتّت كل النسيج اللبناني، وبات الوضع الشعبي أقل تحفزاً مما كان عليه عشية قيام لقاء البريستول في عام 2004 لجهة الضعف في صفوف القوى المتجانسة من أجل أهداف محددة. التعويض يكون من خلال البرنامج المرن والخطاب الذي يحوز أوسع الاهتمام، ما يساعد التجمعات المختلفة، التي تنشط في كل مكان وأحياناً دون فاعلية، في توفير الحاضنة الوطنية خطوة خطوة على مساحة البلد، بحيث يكون ممكناً تجاوز المناطق المغلقة والغيتوهات الطائفية… هناك قناعة بأن وجود نواة للعمل الجبهوي ممر إجباري لخلق حالة متميزة خارج إطار وصاية الزعامات الطائفية، حالة ستخلق الحوافز لجذب مجموعات مترددة أو ناقمة أو أوساط تبدو مستسلمة نتيجة الخوف من الهيمنة المسلحة أو الضغوط الطائفية… إنه مركب خشن يبدو لا بديل عنه لمسيرة المواجهة والإنقاذ، والرهان بداية على أكثرية اللبنانيين الخائفين من ضياع البلد وهم أصحاب المصلحة باستعادة الدولة والجمهورية التي تحيي هذه الأيام الذكرى 75 للاستقلال المشوه.