إنّها مرحلة المواجهات الدموية والحسابات الطويلة الأجل. التسويات والحلول بعيدة الأجل. لا رحمة ولا مَن يرحمون. كل القوى والأطراف المنخرطة فيها لها أهدافها، وأضعفها يقاتل من أجل البقاء. ليست سوريا (نظاماً مستأسداً ومعارضات منشغلة بالتزامن على جلد الدب الذي ما زال بعيد المنال) وحدها في كل ذلك، هي والعراق المركز، والدول الأخرى وصولاً إلى اوكرانيا، ترقص على وقع حركة «الشياطين»، سواء عن سابق تصوّر وتصميم أو عن سوء تقدير أو لأنها تعتقد أنها تُعيد كتابة التاريخ من دون النظر إلى دروسه القديمة، ومن دون تقدير لقواعد الجغرافيا، وطبيعة المجتمعات، واختلاط الأديان والمذاهب بالأساطير والخرافات والمصالح الطارئة.
قبل أسابيع قليلة بدت الحركة وكأنها انطلقت باتجاه صياغة مسارات تسووية، حيث كل طرف يعرف بعمق أنّ عليه تقديم تنازلات مهمّة ومؤثّرة، ليحصل على بعض ما كان يريد الحصول عليه. موسكو أبلغت واشنطن السير في تنفيذ جنيف واحد، أي القبول بتشكيل حكومة جامعة ووفاقية وذات صلاحيات واسعة، حيث المعارضة شريك حقيقي فيها. الآن توقف هذا المسار وتراجعت موسكو عن هذا التوجّه. اوكرانيا أصبحت «شوكة» في حلقها. حتى ألمانيا تتقدم لتقف ضدّها، فتنخرط بالتأكيدات حول مسؤولية الروس المعارضين في اوكرانيا عن إسقاط الطائرة الماليزية، وهذا بداية، مع كل ما يستتبع ذلك من مسؤوليات ومحاسبات وتكاليف.
إيران، هدمت جسور الثقة التي كانت على طريق البناء مع السعودية، بأسرع من الصوت. خطابات الانتصار الرسمية في اليمن بكل ما يعني ذلك من تلويح بالإمساك بالأمن القومي السعودي، والإعلان أنّ طهران تمسك القرار في بيروت وسوريا والعراق، لا تبلع ولا تحتمل. الأسوأ أنّ هذه التصريحات أرفقت بكلام أسوأ وأخطر، جمعت بين استبدال إسرائيل بالسعودية وأنّ طريق القدس يمر بصنعاء، إلى جانب الكلام عن قضية الشيخ النمر من لونها المذهبي إلى جانب طابعها السياسي. بعيداً من خصوصية قضية الشيخ النمر، فإنّ طهران ترمي الزيت على النار المذهبية ثم تتهم الآخرين بالمذهبية. يكفي فقط الحديث عن الممارسات المذهبية في إيران، والتي تتفوّق فيها على الآخرين، أنّه لا يوجد وزير ولا جنرال سنّي في إيران، رغم كل الوعود منذ الثورة، وأمّا عن السجناء السياسيين من كل الأنواع فحدِّث ولا حرج. يكفي الكلام عن الشيخ كروبي ومير حسين موسوي الموجودَين في الإقامة الجبرية، وعشرات الصحافيين المعتقلين منذ سنوات.
يُقال إنّ الولايات المتحدة الأميركية والسعودية متفاهمتان على تخفيض سعر النفط إلى 80 دولاراً للبرميل، مما يلحق أضراراً بالغة بالاقتصادَين الإيراني والروسي. وفي هذا شيء من الواقعية. تستطيع دول الخليج العربية وأميركا تحمّل هذا الضغط، أمّا إيران وروسيا فلا يمكنهما اقتصادياً وشعبياً، خصوصاً في ظل العقوبات. الحرب تتضمّن الهجوم من الطرفين. البراغماتية الأميركية وصلت إلى درجة رمي الأسلحة إلى الأكراد في سوريا (وهو أمر ملحّ وضروري) رغم أنّها كانت تعتبر الاتحاد الديموقراطي الكردي حزباً إرهابياً.
أمّا تركيا فإنها، وهي ترى أنّها مطلوبة ومكروهة في الوقت نفسه، تريد الحصول على أقصى ما يسمح لها موقعها وعلاقاتها، لذلك تتمنّع وتفرض الشروط حتى تتوضّح الصورة وتدقّ ساعة الطلب والحساب.
الضحيّة في كل ذلك لبنان، لأنه الأصغر والاضعف خصوصاً في لعبة الأمم هذه. الجغرافيا تفرض عليه، هذا الوضع. لبنان كان تاريخياً «جسراً« يعبره الغزاة والطامحون، وقد أضيف إلى موقعه هذا، دور بأن يكون «علبة بريد»، يوجّه الجميع «رسائله» عبره. من الطبيعي إذاً، أن يقع في كثير من الحالات «ضحيّة» بمشاركة من مواطنيه وأحزابه. حالياً لا يوجد في الأفق أي حل. الجمود سيّد الموقف. أقصى ما يمكن نشدانه الأمل بأن يقف الانهيار عند حافة الهاوية، حتى تنقلب اتجاهات المسارات نحو الحلول.