Site icon IMLebanon

لبنان… مسرح اللامعقول

 

وحدها المصادفة أضاءت على حجم بعض الفضائح التي يُخشى أن يؤدي استمرارها إلى وسم لبنان بصفات لا يمكن التكهن بنتائجها السلبية. حكومة جزر القمر بدأت إلغاء جوازات سفر تم إصدارها في يناير (كانون الثاني) الماضي اشتراها أجانب. ومن بين الدفعة الملغاة، والعدد 155 جواز سفر، تبين أن 100 منهم تعود لشخصيات إيرانية. اكتفت حكومة جزر القمر بالقول: «إن هذه الجوازات صدرت بشكلٍ غير مناسب». والمناسبة طبعاً سيف العقوبات الأميركية التي ستشمل المتعاونين مع طهران. القضية سلطت الضوء على منحى إيراني حثيث للالتفاف على العقوبات، وهذا المنحى يقوم على اكتساب جنسيات أفريقية لإيرانيين لمتابعة أنشطة في الخارج، ووحدها جزر القمر باعت أكثر من 300 ألف وثيقة سفر لإيرانيين منذ عام 2008.

بين الأسماء التي سُحبت منها الجوازات هناك بعض كبار مديري المؤسسات الكبرى، التي تعمل في مجالات النفط والغاز والملاحة والمعادن والنقد الأجنبي، وهي المجالات التي تستهدفها العقوبات الأميركية والدولية. والواضح أن الحصول على هذه الجوازات لم يكن مصادفة، بل عملية مبرمجة تهدف إلى حماية مصالح النظام الإيراني، لأن أصحاب هذه الجوازات ستكون لديهم القدرة على ممارسة شتى الأنشطة السياسية والأمنية، كما التجارية من خلال تسجيل شركات في الخارج، والمالية من خلال فتح حسابات في مصارف أجنبية. أيْ سيكون بوسع هؤلاء الالتفاف على العقوبات الدولية التي تشلُّ الكثير من قدرات النظام الإيراني المتهم بتنظيم شبكات التهريب وتبييض الأموال بين الأميركتين وأفريقيا وأوروبا. وزير داخلية جزر القمر اعترف بأن الفضيحة تحولت إلى مشكلة دولية: إنها مسألة تتعلق بالإرهاب والأمن الدوليين.

بالتزامن تراجَع وزير الداخلية اللبناني عما أعلنه من اعتزامه وقف دخول الإيرانيين إلى لبنان من دون تأشيرة ومن دون ختم جواز السفر، بعدما لفت إلى خطورة ما يرمز إليه هذا التدبير من احتمال اتهام لبنان بتغطية الالتفاف على العقوبات والمسألة تتعلق بالإرهاب. جاء التراجع بعد لقاء الوزير المشنوق مع مدير الأمن العام اللواء عباس إبراهيم، الذي ذكر أن الأمر يتطلب التشاور مع رئيس الوزراء (…) لكن الثابت أن التدبير جرى وضعه في التطبيق قبل التشاور الذي لم يتم. وهذا الأمر يهدد بتكريس لبنان منصة يستخدمها الحرس الثوري في مشاريع طهران العدوانية والاستفادة مما تتيحه الإقامة ومن ميزات القطاع المصرفي.

… وبالتزامن أيضاً وخلافاً لما ذهب إليه وزير الداخلية بعد لقائه رئيس الجمهورية، من أن مرسوم التجنيس معلّق بانتظار قرار مجلس شورى الدولة بالطعون المقدمة ضده، يتبين لاحقاً أن المرسوم جرى وضعه في التطبيق وأكثر من اكتسبوا الجنسية يعملون على استخراج سجلات قيد النفوس لهم وهويات لبنانية وجوازات سفر. هذا الأمر يتم رغم الطعون ورغم إعلان الأمن العام نتيجة التدقيق بالأسماء أنه من أصل الـ400 ونيف اسم، هناك 85 شخصية يمنحها المرسوم الجنسية اللبنانية، هم من المشبوهين بقضايا احتيال وسرقة وتجارة ممنوعات وتبييض أموال، وبعضهم مدان بجرائم قضائية، ومنهم من لم تطأ رجله لبنان في أي يوم، كما أن هناك 15 شخصاً تحفَّظ الأمن العام على منحهم الجنسية… إنه مسرح اللامعقول، في البلد الذي تتركز فيه سلطة القرار في مجلس الوزراء، وفي ظلِّ حكومة تصريف أعمال تحول بعض وزاراتها ووزرائها إلى جزر تحدد سياسة البلد وعلاقاته وتضع أخطر القرارات في التطبيق، دونما حسيب أو رقيب. ويطل الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله الذي حدّث اللبنانيين عن مكافحة الفساد، والفساد ظاهرة تنتجها السلطة السياسية، وحزبه ركنها المحوري، والبلد أمام مرسوم سلّعَ الجنسية لمن يدفع أكثر، ليعلن أن لديه ملاحظات سينقلها إلى رئيس الجمهورية لكنه يطالب بالمزيد من مراسيم التجنيس (…)، مؤكداً بما لا يدع أدنى مجال للشك تغطية هذا المنحى، و«حزب الله» صاحب الباع الطويل في التأثير على قرارات تتخذها الدولة العميقة، وهذا يشمل المرسوم المذكور وعدم ختم الجوازات الإيرانية.

في مسرح اللامعقول، العيون الساهرة ضاعفت من حجم الملاحقات والضغوط التي يتعرض لها صحافيون وناشطون، والتتويج كان الحكم بحق الصحافي فداء عيتاني، الموجود قسراً في لندن، والذي قضى بحبسه أربعة أشهر وإلزامه بغرامة 10 ملايين ليرة في الادعاء المقدم من وزير الخارجية على خلفية انتقادات أوردها عيتاني في مقالاته وطالت الوزير باسيل! الحكم بالسجن على صحافي ليس الأول الذي يصدر في الأشهر العشرين الأخيرة، بل هو مماثل لقرارات صدرت بحق كل من حنين غدار وجوزف قنبور وآلان سركيس، ويُراد منها فرض كسر الأقلام وكمِّ الأفواه، من خلال اعتبار الصحافي مجرماً بتسليط عقوبة الحبس عليه بعد التوقيف الاحتياطي، بينما المعنيّ بالأمر محكمة المطبوعات دون سواها، والقانون حدد سقف العقوبات الناجمة عن ممارسة الصحافي دوره النقدي في تبيان الحقيقة. إنه مسرح اللامعقول، حيث لا يتعظ مسؤول من تجارب البلد وكم نبت للعين ناب وتصدى لخناجر الظلم.

«مرتا مرتا تنشغلين بأمور كثيرة والمطلوب واحد» المثل معروف ويتكرر كل يوم، والمطلوب تشكيل حكومة جديدة تكون مرجعية مسؤولة لوقف هذه التهريبات الخطرة، وكلما جرى التمعن في الاتصالات الجارية تَبيَّن أن الأمور عند نقطة الصفر. اللافت أن طغيان احتساب الأرقام في عملية التأليف يجعل لبنان أقرب إلى النظام المجلسي، حيث الحكومة برلمان مصغر خلافاً للمبدأ الدستوري الذي يفصل بين السلطات، وتغيب السياسة وتبرز جوانب من التفاوت الحقيقي في القرار بين السلطتين الفعلية والاسمية. وطبعاً المسافة ضوئية بين خلفية الصراع على الحصص، وبين ما يحتاج إليه لبنان من ضرورة لمعالجة أوضاعه الاقتصادية والمالية، ومن رؤية إنقاذية تفترض نوعية أخرى من الحكومات ومن الوزراء. كل ما يسمعه المواطن عن التأليف معيب ومريب ومهين، لأن الجميع، جميعهم، يلتقون على رؤية لصيغ حكومية تثبت الفساد وتُكرس محاصصة البلد بعدما أدت حروب التأجيج الطائفي إلى إصابة الموجوعين بعمى الألوان.

من آخر قرية لبنانية حتى العاصمة، تحول لبنان إلى بلد ينهشه الفقر والبطالة ويطحنه الجشع، وأهل الحكم يختلقون الأعذار إلاّ إذا كان الأمر متعلقاً بمحاصصة. والمثال مرسوم التجنيس الذي وضع البلد في المزاد، ويبدو أن المشتبكين على الأحجام والحصص الحكومية غير مستعجلين على التأليف قبل جلاء الصورة، وجاءتهم هدية من السماء (قمة هلسنكي) لتبرر لهم الدوران في حلقة مفرغة… وحقيقة الأمر، أنه إذا لم تنضج المحاصصة الداخلية، سيختلقون ذرائع أخرى لإبقاء البلد دون حكومة، والكل مدرك أن «التسوية» الرئاسية – الحكومية هي قيد إعادة النظر، لأنها لم تكن في واقع الأمر سوى عملية استيلاء على السلطة من قبل «حزب الله» المنتصر الكبير في الانتخابات والذي برمج، بما له من فائض قوة، عملية تصفية حسابات مع المرحلة السابقة. وهل بات من عاديّات الأمور الدفع لإقامة «دولة بوليسية» تُحاكي مرحلة الاحتلال السوري، وتشطب الحريات والنسيج الداخلي وعلاقات لبنان بمحيطه العربي والعالم الذي ينتمي إليه؟