Site icon IMLebanon

حرير فوق أشواك لبنان

 

اليوم صار الطالب الإعلامي الطشّ في الجامعة أو أي محلّل سياسي تلفظه زوجته في بيته لكذبه وألعابه في القفز من مذهبٍ لآخر وإيقاد النيران في الأرجاء السياسيّة، صار يتنقّل بموكب مستنسخ عن الرفيق الحريري – الله يرحمك. لطالما قلت له في باريس على أيّام المستقبل: إيّاك أن تعود إلى لبنان لأنّه أشوك من حقول البلّان. عندما غادرت لبنان في الـ1972 أعذروني… بصقت على أرض المطار بعدما بلغت أعلى السلم وقبل أن أدلف إلى طائرة الـ«ميدل إيست». وأقسمت يومها ألّا أعود. كانت أمنيتي محو عقدين من… ما لست أدري ولن أتذكّر. لربّما أكتبها يوماً أو ذات يوم.

شردنا عفواً. تذكّرت مي عندما قالت لي: اللبنانيون يستأجرون أو يشترون الشرفات قبل المنازل. ما أن يفتح سمسار العقارات باب الشقّة المعروضة للإيجار أو للبيع في لبنان حتى يركض «الزبون» نعم «الزبون» اللبناني ركضاً إلى الشرفات حيث الإطلالة على… ومن هناك يبدأ القرار… وتبدأ السعادة والحياة… لطالما الشرفات في لبنان أهمّ من غرف الجلوس والنوم والطعام والمطابخ والمغاسل، فالج لا تعالج. ولطالما لا يرتاح اللبنانيون إلّا فوق الشرفات يتنادرون ويصرّخون ويطقطقون البزورات ولربّما يرمونها مع قشور الفواكه إلى تحت، لن تقوم قائمة لمستقبل وطنٍ إسمه لبنان.

 

لبنان شعب واقف فوق الشرفات، لا يتطلّع إلّا إلى الخارج. نستأجر الشرفة قبل أن نستأجر المنزل، عفواً بل نشارك أهالي المنازل المحيطة بنا كلّ ما يدور في الدنيا بالإشارات والأحاديث والاجتهادات والنميمة والقيل والقال والـ: قلنا.. من بلكون إلى بلكون.

لبنان يا وطن الشرفات وذريّة هولاكو لا تزهو إلّا فوق الشرفات والشبابيك. يترك اللبنانيون غرف النوم مقلوبةً، ويلحسون بلاط الصالونات التي تقودهم وتقود ضيوفهم إلى البلكونات أعني الشرفات التي منها يشرفون على مدّ عينك والنظر من بيع الفول الأخضر إلى بيع الكراسي والغاز والبترول وصولاً لا سمح الله إلى بيع الوطن والعرض والشرف.

لبنان خارج لبنان لا داخل له.

يودّع الناس بـ:«ملتقانا بكم في الغد كالعادة إن شاء الله» (أنظروا العادة…). ويمدّ صوته بين (إنّ وشاء) ليكسب مزيداً من الوقت على الشاشة ثم تصبحون على خير، ويكاد يرفع يديه ملوّحاً بهما للناس إشارةً للوداع لولا المخرج الذي يسحب الكرسي من تحته أو يأمر بإزاحة الأضواء عنه، أو أنّ المشاهدين يهشّمون وجه الشاشات بأحذيتهم الليليّة، يُقسمون ألّا يشاهدوا أخبار لبنان الوبائية بتكرارها الغليظ في شاشات لبنان وإذاعاته بالطبع.

بعدها ينصرف المذيعون بـ«رانجاتهم» السوداء نحو سهراتهم أو الردود الليلية على الهاتف واستمزاج آراء معلّميهم: «كيف عجبك»؟، «توفّقنا فيه الليلة»، «والله ما عم لحّق إتّصالات»، ويهمس الوزير أو الرئيس أو الزعيم: «مُرق بكرا تاركلك مغلّف مع الحارس». نسينا أن لوحات عرباتهم مشكولة بلوحة زرقاء محفور عليها: «صحافة» وأزرقها أقوى ربّما من «حكومي» في بلدٍ أرقى صفةٍ فيه صارت «حرامي».

وعندما تهمّ نحو السرير، تلقطك مقدّمة الفترات بسترة نومك، وما أن تفتح شفتيها حتّى تلمع أضراسها الفضيّة، ويد هولاكيّة تُطلّ بالتحيّة من قعر حنجرتها، فتُطفئ الجهاز وتستسلم للشخير والـ… على…