IMLebanon

الأحزان المعتّقة

 

من لا يعرف صيف لبنان، حين كان مطار بيروت لا يهدأ، لا في الليل ولا في النهار، كل خمس دقائق، كانت طائرة تحطّ، وطائرة تطير، وكانت صالات الوصول تعجّ بالقادمين إليه من كل الجهات. كان البحر ممتلئا بعشاقه، وكانت مصائف الجبل تسهر حتى الصباح. كانت بيروت عاصمة العرب. وكانت زحلة عروس المصائف، يحفل البردوني فيها، بأشهر الفنانين والشعراء، تلهم أحمد شوقي وتسهر معه، حتى يغيب القمر ويحلو لك الليل، وتتغامز النجوم على العشاق: أن دنا الفجر، فاجمعوا أنفسكم واذهبوا إلى الصباحات على الشرفات.

كانت فنادق عاليه عروس المصايف، كما فنادق صوفر وبحمدون وحمانا وفالوغا وبيت مري وبرمانا، ممتلئة بالمصطافين، ينتشرون في الربوع الجميلة، ويحطون في بيت الدين ودير القمر وجباع وجرجوع، ويقصدون القرنة السوداء وسهل القموعة، يسهرون في القبيات وفي إهدن عروس الشمال، وفي سير الضنية، يمضون أعظم الأوقات الجميلة، بين أعمدة بعلبك وتحت شرفات عنجر وبساتين فنيدق وسهل القموعة، وغابة الأرز العذراء في عكار العتيقة.

 

كان صنين كما المكمل، كما جبل عامل، كما جبال عكار، وجبل الريحان، مقصد السواح في الصيف والشتاء، وفي الربيع وأيام الخريف. كان أيلول والورق الأصفر يخطف الأبصار، وكان الربيع وأسيجة الورد والزهر والليلك، وجنائن التفاح والدراق والليمون، تشرح الألباب.

كان الشريط الساحلي، يربط بين العواصم: طرابلس وبيروت وصيدا وصور. وكان سهل البقاع الأفيح، يفتح صدره للمزارع وللحقول وللكروم. تغنّي الأنهار مواويلها في الصيف، وتصب جام غضبها في الشتاء، وترى مساطح الثلج على الجبال، تشدّ إليها عشاق التزلج من شتى أرجاء الأرض، يمضون أوقاتهم بين أحضان البحر، وبين أنسام الجبال.

هل أحدّثكم عن الأمن والسلام، من أقصى لبنان إلى أقصاه؟ أم هل أحدثكم عن رحلات المشي والإستجمام، بين الوديان، وبين صخور الجبال، وداخل المغر المدهشة في جعيتا وفي سير الضنية؟!

 

الناس من كل الأعمار، مدعون إلى لبنان، لطلب العلم ولطلب الكتاب، ولطلب الجامعة ولطلب المشفى، ولطلب الهدوء والراحة والإستجمام.

لا يمضي عام، إلّا ويعقد في لبنان عشرات المؤتمرات المتنوعة، على مستوى الدول وعلى مستوى الأمم، وعلى مستوى النقابات والمجالس والأكاديميات والفاعليات العالمية. ترى لبنان محكما بين الدول، يجتمع إلى المتنازعين، ويفض النزاعات، فأغراضه وأهدافه، في طلب السلام، وفي نشره في المحيط، لمما جعله يتقدم على دول الجوار. وعملته أقوى العملات، وأسواقه أغنى الأسواق، وشهاداته أعلى الشهادات، وشبابه مكين رزين: علما وخبرة وإجتهادا، يقتحم جميع المغامرات، طلبا لتحقيق النجاحات.

هل نتحدث عن كازينو صوفر، وعن الفندق الكبير فيها، وعن محطة القطار، ورصيف الشارع المطلّ على الوادي المهيب تحت أشجار الدلب الإيطالي؟ أم نتحدث عن كازينو المعاملتين، وعن خليج جونية الساحر، وعن فنادق ومسابح أنفة وملاحاتها، وكذلك عن الهري والبترون وجبيل؟ هل نتحدث عن العريضة والمياه المعدنية في بلدة السماقية وسهل عكار؟ أم نتحدث عن بنت جبيل وميس الجبل وجبل الريحان وجزين والنبطية ورأس الناقورة؟ أم نذهب إلى أرز تنورين وأرز الشوف والباروك وأرز بشري وأرز جاج ومشمش وأرز عكار، ثم نعرج على سهل كوسبا وزيتون الكورة، ونصطاف في حصرون، فوق وادي قاديشا المهيب؟!

تكاد الأحزان المعتّقة، تجعل لبنان، كما اللبنانيين جميعا، يشرق بالغصص، وتفيض عيونه بمجاري الدمع، بعدما جفّ فيه كل شيء، حتى سرقت شواطئه وأنهاره ودروبه وجزره وسككه ومحطاته ومخافره، حتى سلب حراسه، وصارت إداراته، كما وزاراته ورئاساته، أسماء بلا معنى. وربما قريبا جدا، ننسى الجمهورية التي كنا نتغنّى بها بين الدول، وربما ننسى الشريط الحدودي، وبلدات الشريط الحدودي، من علما الشعب وعيتا الشعب، حتى عديسة ومركبا وشبعا وكفرشوبا، بل ربما صرنا ننسى عملتنا الوطنية، ونستغني عن التداول بها، بعد دولرة رواتبنا و حاجاتنا في جميع الأسواق.

نشهد اليوم على أنفسنا بأنفسنا، أننا حطّمنا البلاد بأيدينا. أن الطغمة الحاكمة إستبدّت بنا، وسلبتنا إرادتنا، بمجالس زوّرت إرادة الشعب، وبحكومات ندّت عن رغبة الشعب، وبرؤساء تحكّموا بأعناق الشعب، فضاع الوطن الجميل، وضاع العمر الجميل، وضاعت الطرقات والسكك وخطوط الهاتف بيننا. تمزّقنا، طوائف ومذاهب، وعشائر وبطونا وأفخاذا، حتى صرنا جيفة منتنة، ولم نعد نصغي إلى بعضنا، وصار ملوك الطوائف عندنا، هم الحكام الذين يحكمون ويتحكّمون بنا.

الأحزان المعتّقة تملأ جوفنا، لأن خسائرنا لا توصف لشدّة فظاعتها، ولأن الأعداء واللصوص والسراق والمهرّبين، يتحوطوننا من كل الجهات، يستعينون بالخارج علينا، فيوقعون فينا أشد الأذى.

الأحزان المعتّقة، تكاد تخنق الصوت فينا، تكاد تقتلنا، تكاد تميت روحنا، وتجعلنا مثل الجيف المنطرحة، والتاريخ يأتي مرة للشعوب، فإما أن تستيقظ على نفسها، وتبني نفسها بنفسها، وإما تظل غرقى أحزانها المعتّقة، وتنتظر على شرفة التاريخ، تلوّح له بأمجادها الغابرة.

وهيهات هيهات أن يعود لها!

* أستاذ في الجامعة اللبنانية