تعالوا ننسى اليمن، والعراق، وسوريا… تعالوا ننسى مالي، وسيرياليون، وبوركينا فاسو، وبوروندي، وجنوب السودان. تعالوا ننسى كلّ هذه الدول التي تعاني من حروب وفساد وفقر وإهمال، ودعونا اليوم نحتفل بلبناننا العظيم، الذي استطاع بفضل حكمة سياسييه وقيادة زعمائه الحزبيين والروحيين والعلمانيين أن يجتاز رحلة الألف ميل إلى حضيض التصنيفات المالية والاقتصادية والسياحية والسياسية والأمنية.
فعلاً، لقد كانت رحلة طويلة وشاقة، ولكن ببركة كل واحد نجّد مؤخرته على كرسي الحكم، استطعنا أن نشوّه صورة لبنان، وخلقنا مكانه وحشاً جامحاً يلتهم أبناءه ويتجشّأ آمالهم وأحلامهم ومستقبلهم.
إنّها بالفعل مناسبة تاريخية للاحتفال بحصول لبنان على لقب «فنزويلا الشرق»، بعدما ملّ من أن يكون «سويسرا الشرق»، وفي الملل، ضرر يمكن أن ينسحب على جميع مكوّنات البلد. فصراحة، كنّا قد سئمنا من القطاع المصرفي المستقر والجبّار الذي استقطب أموال المنطقة والإقليم. والقطاع السياحي المغري، الذي جذب العرب والأجانب إلى شطآننا وجبالنا وفنادقنا، ومن القطاع الزراعي الغني، الذي انفرد بفصول لبنان الأربعة ليكون منتجاً على مدار السنة. كنا قد سئمنا من القيادات السياسية الوطنية التاريخية التي وضعت لبنان أولوية في أجنداتها، ومن رجالات الفكر والثقافة الذين زيّنوا الهوية اللبنانية ورفعوا إسم بلدهم عالياً أينما حلّوا…
نعم، هذا الكمّ من الإيجابية والازدهار أصبح في مكان معيّن مملاً وروتينياً، وكنّا بحاجة إلى بعض التغيير. فلم نترك منصباً وطنياً إلّا ووضعنا فيه دمية، ولم نترك مركزاً حسّاساً إلّا واخترنا لتولّيه دمية، ولم نترك وزارة إلّا ووضعنا حقيبتها في يد دمية، ولم نترك أي مدير عام أو رئيس مؤسسة أو مدير شركة حيوية إلّا وكنّا مصرّين أن يكون دمية.
وما بين سويسرا وفنزويلا، اضطر لبنان الى أن يمرّ بمرحلة مسرح الدمى لاجتياز الاختبار وتحقيق هذا الإنجاز التاريخي، لأنه بطبيعة الحال ليس من السهل أن يحدث هذا التبدّل الجذري بلمح البصر. فقد كان هناك إصرار مديد وتصميم عميق للانتقال من القمّة إلى الحضيض، بفضل مجموعة من الدمى التي تنفّذ ولا تعارض وتفشل ولا تخجل.
ولا شيء ينفع في توجيه الكلام إلى السياسيين، لأنّه لم يحدث أبداً أن جلس راشد على طرف سرير فتاة صغيرة وبدأ يُقنع الدمى مثلاً أن تكون أكثر تهذيباً وترتيباً، وتهتمّ بتنظيف الغرفة والسهر على سلامة الأولاد.
نحن نريد سويسرا لأننا نريد الاستقرار الأمني والمالي، وهم يريدون فنزويلا حتى يغسلوا الأموال ويتاجروا بالسلاح وينهبوا مدخرات الناس. نحن نريد سويسرا حتى نعيش بأمل، وهم يريدون فنزويلا حتى يحرمونا من الأمل. نحن نريد سويسرا لنبني مؤسسة أو نفتح محلّ سندويشات أو نستثمر في مشروع، وهم يريدون فنزويلا حتى يفرضوا الخوّات ويسرقوا حصصنا. نحن نريد سويسرا لنسبح ونتزلّج مع السياح، وهم يريدون فنزويلا حتى يسرقوا الأملاك البحرية والجبلية ويشوّهوا الغابات بالكسّارات والمرامل ومعامل الترابة. نحن نريد سويسرا ليلعب أولادنا في حديقة عامة، وهم يريدون فنزويلا حتى يلوّثوا الهواء بالغازات والطرقات بالنفايات والبحر بالمجارير.
بإرادتهم وسياساتهم وخططهم وتحالفاتهم أكسبوا لبنان بجدارة لقب «فنزويلا الشرق». فمثلهم مثل أي نجّار أو حدّاد أو كهربائي أو سمكري أو اسكافي مسؤول عن تصليح المكسور والمخروب والمهترئ، يجب أن يكون دورهم، كسياسيين يتقاضون مرتباتهم من أموال الناس، أن يصلحوا ما فسد ويجدوا حلولاً لمشكلة الكهرباء، تماماً كما يعرف النجّار كيف يُصلح باب خزانة مخلوعاً. وحتى إذا لم يكونوا مسؤولين عن كل ما حصل في آخر 30 سنة، كما يزعمون، فلا شكّ في أنّهم مسؤولون، بمجرّد وجودهم في موقع المسؤولية عن سلب هوية لبنان كرمى لسلاح الميليشيات وأحزاب الموتسيكلات وبعض الدمى الذين يعتقدون أنفسهم زعماء، وتحويله إلى أسوأ مثال عن دولة تبحث عن الإنقاذ، وهي تطلق رصاصة الرحمة على أبنائها ومقدّراتها وخيراتها.