لم يعُد إحصاء عدد القتلى هو المهم في المواجهات التي تكبر يوماً بعد يوم بين المقاتلين السوريين، في معزل عن هويتهم السياسية أو أوصافهم، وعناصر «حزب الله» على امتداد خريطة انتشارهم، سواءٌ داخل سوريا أو على الحدود المشتركة معها.
لعلَّ الضحية الرئيسة جرّاء ما يحدث هو انهيار ما تبقّى من «مساحات» النأي بالنفس الذي لطالما دعا إليه اللبنانيون على مختلف انتماءاتهم.
تفسيرات كثيرة أُعطِيت وقد تُعطى للمعركة الأخيرة في جرود بريتال، لكن ممّا لا شكّ فيه، أنّ كلّ الروايات تحمل جانباً من الحقيقة.
فسواءٌ أكان هدف المسلّحين فكّ الحصار عنهم قبيلَ فصل الشتاء، والردّ على «التضييق» الذي نجح الجيش اللبناني في فرضه على خطوط إمداداتهم، وسواءٌ أرادوا توجيه «صفعة» ما إلى «حزب الله»، والتلويح له بأنّهم باتوا قادرين على نقل المواجهة معه إلى عقر داره، فالنتيجة واحدة.
مصادر أميركية متابعة للملفّ اللبناني وتعقيداته الأخيرة، تتوجَّس كثيراً من أن يكون ما حدث مقدّمة لتطوّرات أشدّ خطورة، في ظلّ تقاطع معلومات عن إصرار بعض الجهات على ربط لبنان بسوريا، في وقت تصفه تلك المصادر بـ«الوقت الضائع»، في انتظار تطوّرات قد تحملها الأسابيع القليلة المقبلة، مع توقّع تغييرات سياسية وعسكرية ولوجستية تفرضها الحرب المعلنة على «داعش»، بعد أسابيع على استنفاذ الأهداف الأولى منها.
وتعتقد تلك المصادر أنّ طرفي المواجهة يعملان على تحويل التورّط اللبناني أمراً واقعاً، وكلّ لحساباته الخاصة.
هكذا ينظر هؤلاء إلى محاولات إشعال المواجهة في منطقة شبعا عبر إيقاع الفتنة بين الدروز والسُنّة، في منطقة لم تعهد على امتداد تاريخها القديم أو خلال الحرب الأهلية، أو حتى إبّان مرحلة الاحتلال الإسرائيلي، أيّ نوع من المواجهات الطائفية، خصوصاً أنّ التلويح بخطر التكفيريين أو بخطر اللاجئين السوريين، تدحضه أرقامهم المتواضعة في تلك المنطقة، قياساً بعددهم في عرسال أو البقاع الأوسط، وصولاً إلى عكّار.
في المقابل، ترى تلك المصادر أنّ اطمئنان النظام السوري وحلفائه إلى أنّ الحرب على «داعش» قد لا تشملهم، أقلّه في هذه المرحلة، يجعلهم يواصلون مساعيهم لخلق وقائع يدركون أنّ تأثيرها محدود، في وقت يعلمون أنّ الهدف من إقامة التحالف الدولي، لن يكون استصدار بطاقة تأهيل جديدة لكي يحكم النظام دمشق مجدّداً.
وتقول تلك المصادر: «يدرك الجميع أنّ تغيير التوازنات الإقليمية عملية طويلة، في الوقت الذي تتصارع فيه الملفات، بدءاً بطريقة حشد وبناء القوى الذاتية لمواجهة خطر «داعش» وأخواتها، وصولاً إلى النهاية المرجوّة من التفاوض على ملف إيران النووي، وما بينهما.
فواشنطن لا تبدو على عجلة لحرقِ الملفات، بعدما ترسَّخ الاقتناع في دوائر القرار فيها، ولدى الخبراء والمحلّلين الأميركيين، بأنّ المهمة الراهنة تقتضي العمل على «احتواء» خطر «داعش» قبل القضاء عليه».
هذا ما أثبتته تجربة أفغانستان على الأقلّ، بحيث يستحيل القول إنّ القضاء على خطر تلك الجماعات المتطرفة مُمكن، ما لم يتمّ بناء حاضنة وحيثية سياسية وجماهيرية تتولّيان إنهاءَها.
وتدرك تلك المصادر أنّ المنطقة ستشهد مناورات طويلة، وأنّ مقايضات عدة ستُطرح بين القوى المتورطة في النزاعات فيها. فهذا ما تفعله تركيا التي تناورعلى خيط دموي رفيع، سواءٌ في مواجهة الأكراد أو إيران.
وهذا ما تفعله طهران التي تسعى إلى استثمار ما أمكن من ملفّها النووي لتحسين شروطها «الإقليمية»، بينما تُدرك أنّ الوقت سيحين عاجلاً أم آجلاً، لتسليم أوراقها في ذلك الملف».
وتشير المصادر أخيراً إلى أنّ «حسم الملف السوري قد يحتاج أقلّه إلى عام أو أكثر، الأمر الذي يُفسّر إحجام واشنطن حتى اليوم، عن توجيه أيّ ضربة للنظام إذا لم يذعن لشروط الحلّ السياسي كما صيغَ في مؤتمر جنيف الأوّل.
فالغارات على «داعش» لا تسقطه، لأنّ شروطه مختلفة، في حين أنّ الضربات على مواقع النظام قد تسقطه، لاختلاف بنية تركيبته عن «داعش»، ولكن عندها من الذي سيخلفه؟». هذا الجواب ليس متوافراً حتى الساعة، وهو ما يعطيه فترة صلاحية أطول.