فيما تتصاعد سخونة الأوضاع في سورية والمنطقة، وتتفاقم حالة الشلل والجمود التي يعيشها لبنان، فإن الجدل البيزنطي لا يزال هو السائد على ألسنة الكبير والصغير والمواطن والوزير عن جنس الملائكة وحول من يأتي أولاً: البيضة أم الدجاجة، وأقصد الرئيس أولاً أم الانتخابات البرلمانية، والرئيس القوي أو الرئيس التوافقي.
ترف سياسي وحوار طرشان، فيما لبنان يغرق، والمواطن يفقد الأمل، والمؤسسات تتهاوى، وأزمة النفايات تنشر الأوبئة، والخدمات معطلة: لا ماء ولا كهرباء ولا شكل حسن لأجمل البلدان. أما أهل الحل والربط، فغير قادرين على الحل والربط ويتقاذفون الاتهامات والشتائم، وكل طرف يلقي اللوم على الطرف الآخر ويحمله المسؤولية. وعندما انطلق الحراك الوطني، تفاءل كثيرون بتحقيق اختراق يفتح باب الحلول والانفراجات ويرمي حجراً في المياه الراكدة، فإذا به ينحرف عن مسيرته السلمية ويوجه الحجر إلى رجل الأمن، ومعه سيل من الشتائم والممارسات غير الحضارية وغير الإنسانية، ورجل الأمن هو المؤتمن على حماية الوطن والمواطن والضمانة الوحيدة المتبقية لمنع الانهيار الكامل والدرع الوحيد المانع للانفلات الأمني ووقوع الطامة الكبرى.
وعلى رغم الاعتراف بأحقية المطالب المشروعة للحراك والقرف من الممارسات السياسية والمماحكات المشينة والفساد المستشري، فإن من الموضوعية طرح أسئلة عن الجهات التي عطلت البلاد لسنوات طويلة وكشف هويات كل المفسدين «كلهن يعني كلهن».
ولا بد أيضاً من التساؤل عن سر تشرذم قادة فئات الحراك وعدم قدرتهم على توحيد صفوفهم ومطالبهم وتنظيم صفوفهم، ومنع المندسين من تشويه صورتهم وإعطاء صورة غوغائية والقيام بممارسات فوضوية، مثل الاعتداء على الممتلكات وكتابة شعارات والتفوه بشتائم لا تليق بشباب طامح إلى الحرية ومحاربة الفساد، ما دعا البعض إلى التساؤل عن الفارق بين الذين تبادلوا الشتائم البذيئة تحت قبة البرلمان وبين ما سمعناه خارجه. وهنا لا بد من تحميل بعض الإعلام مسؤولية صب الزيت على النار والسماح بنقل البذاءات والتعديات على الحقوق والحريّة لغاية في النفوس أو بدافع الإثارة.
باستثناء هذه الملاحظات، لا يمكن أي إنسان إلا أن يتعاطف ويقف مع المطالب المشروعة للمتظاهرين ويطرح معهم التساؤلات، ومنها:
* هل هناك بلد في العالم يبقى من دون رئيس لأكثر من سنة ونصف السنة من أجل شخص أو طرف أو حزب؟
* هل هناك بلد في العالم تبقى حكومته معطلة ومشلولة لا تعمل، أو تمنع من العمل، وإن أرادت أن تعمل بجهد رئيسها الصابر والمتحمل ما لا يتحمله إنسان، تواجه بمن يضع العصي في دواليبها ويعرقل قراراتها التي تهدف في الأساس إلى خدمة المواطن وتخفيف الاحتقان؟
* هل هناك بلد في العالم يمدد مجلس نوابه لنفسه مرتين بحجة عدم إمكان إجراء انتخابات عامة في الظروف الحرجة، ثم لا يجتمع ولا يشرّع ولا ينتخب رئيساً ولا يمنح أملا حتى من طاولة الحوار، على رغم اليقين بأن القضية لا تحتاج إلى حوار بل إلى قرار؟
* هل هناك بلد في العالم نفاياته ترمى في الشوارع لأكثر من شهرين على رغم التأكد من أخطارها الصحية والبيئية، وسط عجز ومساومات وتدخلات من كل من هب ودب لتقديم الحلول والاقتراحات، فيما المواطن يكتوي بنار مأساة تضاف الى مآسيه المتراكمة؟
* هل هناك بلد في العالم لا كهرباء فيه على رغم إنفاق البلايين على مشاريع الهدر وسفن الأحلام والوعود الكاذبة، علماً أن أكثر من نصف الدين العام الذي يرزح تحت كلفته لبنان تعود إلى هذا القطاع وفساده؟
* هل هناك بلد في العالم لا ماء فيه، وهو الغني بأنهاره وينابيعه التي تذهب هدراً إلى البحر؟
مسكين لبنان الذي أحببناه، فقد كان الواحة التي يتنفس فيها اللبنانيون والعرب في صحراء الأزمات والحروب، وكان الأمل كبيراً بأن يكون رائداً في الحرية والديموقراطية والانفتاح والازدهار وتأمين سبل الحياة الكريمة لمواطنيه، وهو الغني بإمكاناته وطبيعته وخدماته وحرية اقتصاده وسرية نظامه المصرفي وقدرات اللبنانيين على الابتكار.
مسكين لبنان حقاً. فقد تحول إلى ضحية يساهم في ذبحها كل يوم بعض أبنائه وأكثر أشقائه ومعظم الطامحين بالهيمنة عليه والطامعين به وبمياهه وأولهم إسرائيل التي تعمل على منعه من الاستقرار لأنه يدحض مزاعم «الديموقراطية الوحيدة في المنطقة».
وقد عبر شاعر العصر نزار قباني عن هذا الواقع في قصيدته: بيروت محظيتكم، بيروت حبيبتي: سامحينا إن تركناك تموتين وحيدة/ سامحينا إن رأينا دمك الوردي ينساب كأنه العقيق/ وتفرجنا على فعل الزنى وبقينا ساكتين/ آه يا بيروت، يا صاحبة القلب الذهبي/ إنا جعلناك وقوداً وحطباً للخلافات التي تنهش من لحم العرب/ منذ أن كان العرب؟!
نعم هذه هي الحقيقة المرة، فقد ألقى العرب كل نفاياتهم على لبنان ورموا بمشاكلهم وأزاحوها عن ظهورهم ليرتاحوا، فقد استضعفوه فشلّوه وحمّلوه تبعات خلافاتهم وعجزهم منذ نكبة فلسطين ولجوء مئات الآلاف من اللاجئين إلى أراضيه، ليدفع ثمناً باهظاً توّج بحرب أهلية. ثم جاءت الحرب السورية لتضاعف الأعباء مع أكثر من مليون ونصف مليون لاجئ، إضافة إلى نصف مليون عامل ومقيم.
والدول الكبرى ليست بريئة من دم كل لبناني، فالتاريخ يدلنا إلى الفتن التي أشعلت نارها منذ عام ١٨٦٠ حتى يومنا هذا، منذ هيمنة القناصل إلى نفوذ السفراء. وبكل أسف، فإن بعض اللبنانيين قبلوا بهذا الدور التابع. انتظروا الضوء الأخير من «س س» أو «س أ»، ومن فرنسا وأميركا أو إيران التي دخلت على الخط منذ قيام الثورة. الكل ينتظر ويروج بأنه لا حل إلا بحسم الحرب السورية أو انتهاء حرب اليمن أو معرفة مصير العراق بعد انتظار الاتفاق على حل الملف النووي الإيراني، ولما أنجز جاءت النتيجة عكسية، والكل يدعي حباً ووصلاً بلبنان، ومن الحب ما قتل.
والمؤسف أنه في غياب السلطة الحائر واندفاع الشعب الثائر، برزت فئات لها غايات وأحقاد للعمل على هدم القيم، من الوحدة الوطنية إلى التعايش الإسلامي- المسيحي الذي كان يُعد نموذجاً للعرب والعالم، إلى الأصول الديموقراطية والدستور وحتى اتفاق الطائف الذي لم تنفذ بنوده المهمة. وعلى رغم هذا، ما زال يُعد صَمّام الأمان.
وبرزت فئة أخرى لتكشف عن نواياها لهدم المؤسسات والمرافق التي أعطت وجهاً مشرقاً للسياحة والاستثمار، وهما من أسس بناء الاقتصاد اللبناني ومركز الثقل لتوفير فرص العمل، وفق ما يؤكد الخبراء الذين قدروا حجم العمالة بين مختلف الفئات في الوسط التجاري (سوليدير) والأسواق و «زيتونة باي» والمرافق السياحية بأكثر من مئة ألف فرصة عمل، وربما أكثر، لولا الخضات المستمرة والاعتصامات المتكررة والاستهداف الممعن في الحقد على كل من يبني مرفقاً في بيروت وتشويه صورة الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وقتل أحلام اللبنانيين بعاصمة يفتخرون بها ويستفيدون من المشاريع التي أقيمت في أكثر المناطق إقبالاً من السياح العرب والأجانب، كأن هناك من لا يريد للبنان أن يستقر، ولا لأبنائه أن يؤمنوا مستقبل أولادهم، بدل أن يقدموا على الهجرة ويموت أهلهم حزناً وحسرة على فراقهم.
ولا يتسع المجال هنا لسرد تفاصيل الكثير من الأحلام، مثل لبنان مستشفى الشرق الأوسط والمدينة الإلكترونية والمدينة الإعلامية وغيرها قتلت وهي في مهدها، والتي لو نفذت لأحيت لبنان وحققت للمواطن كل ما يطلبه وجنّبته المذلة والحاجة والمحنة التي يعيشها الآن.
وبعد هذا كله، يسألونك عن الحل في لبنان ويحذرون من الأخطار. ويحدثونك عن الانفراج أو الانفجار، فيما الحرائق تشتعل من هنا وهناك، لتحرق ما تبقى من أخضر ويابس وتقضي على الوطن والمواطن. ولا نجد في المقابل سوى العناد والتحدي والنكايات والأنانية وغياب الوطنية والمواطنة والارتباط بإرادات خارجية وأصابع خفية يقولون إنها تدير اللعبة التي لم يعد لها قواعد تذكر.
وأختم مع الرائع نزار في قصيدة يعبر فيها أجمل تعبير عن مكانة لبنان في قلوبنا:
من الطبيعي أن يتضامن الشعر مع لبنان
فمن هو الشاعر إذا لم يدافع عن وردة جميلة تذبح؟
أو عن لوحة جميلة تذبح… أو عن مدينة جميلة تذبح؟
ولأن بيروت مدينة جميلة جداً… فقد دفعت ثمن جمالها!
ولأنها مثقفة جداً… . فقد دفعت ثمن ثقافتها
ولأنها مدينة حرة جداً… فقد دفعت ثمن حريتها
هذه هي ديكتاتورية التاريخ… منذ شريعة الغاب
…. حتى شريعة النظام العالمي الجديد!
نعم، هذا هو لبنان الذي نحبه ونتألم ونحن نراه يذبح أمام ناظرينا ونحزن لأي أذى يتعرض له من جانب الأعداء والإخوان والأبناء، فكلهم استضعفوه ليشلّوه (الأصل ليأكلوه) ويطفئوا نور إشعاعه ليحل الظلام ويحرم من أن يكون موئل حرية وشاطئ أمان ومنارة حضارة وعلم واعتدال.