يشهد لبنان تموضوعات واصطفافات تحاكي الايام الاولى لأحداث ١٣ نيسان ٧٥ وهذه الظاهرة تكررت مرات عديدة، اذ يتحكم حدث ما بمسار الامور ويعيد تجديد مجتمع النزاع في لبنان على حساب مجتمع الامن والانتظام الذي كلما اعتقد اللبنانيون انهم بلغوه يأتي العنف ليعيد عقارب الزمن الى الوراء، والتموضوعات الحالية تختلف بعض الشيء عن سابقاتها لانها تحاول الايحاء بالتعبير عن ارادتها بالخروج من هواجسها الذاتية، الا ان ما يقلق هو ان تقاسم السلطة وادواتها لا يزال هاجسها الحقيقي بعيدا عن موضوعات الدولة واسبابها وشروطها في مواجهة التحديات الوجودية الراهنة والقاهرة المحلية والاقليمية والعالمية .
قواعد الانتظام في مجتمعات النزاع تقوم على القهر التدريجي من اجل اخضاع الجموع لعملية تكيف طوعي، واذكر في الايام الاولى لتحول لبنان الى مجتمع نزاع بدأت بعملية قطع الطرقات والحواجز الطيارة والخطف والخطف المضاد على اساس الهوية او الانتماء، وكانت الاذاعة اللبنانية هي ملاذ اللبنانيين كل صباح لمعرفة حال الطرقات للذهاب الى العمل او ايفاد الابناء الى المدارس، وكان الجميع يريدون ان يعرفوا من الاذاعة ما هي الطرقات السالكة والآمنة والتي عدنا اليها في هذه الايام .
الايام الاولى لما بعد ١٣ نيسان ٧٥ تميزت باضطراب الدوام في العمل وايضا تحت حجة الوضع الامني والطائفي، ثم انتقلنا الى قصة لم تكن بالحسبان آنذاك هو تداعيات انقطاع الكهرباء وكانت اشبه بكورونا هذه الايام حيث لم يكن احد يقتني اي اسباب للإضاءة البديلة واصبح البحث عن شموع في بيروت غاية الغايات، واذكر ايضا اننا عندما كنا نذهب الى المطاعم في بيروت نحرص عدم طلب اي شيء له علاقة بالبراد واصبح التموين يقوم على قواعد بدائية كما هو حاصل الان عند الذهاب الى السوبر ماركت.
بعد الايام الاولى لاحداث ٧٥ تكون مجتمعات خطوط التماس مع ثقافتها ومقاتليها واغانيها ورموزها الجديدة من الاسماء الشبابية الصاعدة، واستحدثت منصات التحريض الطائفي والمذهبي لصناعة الكراهية وكان لها روادها وصحفها واذاعاتها واصبحنا لا نعرف طريقنا الى السلامة والامان الا عبر توجهاتها ويومها ايضا ادت المطالبة بالخلاص الذاتي الى عمليات المجازر والتهجير الجماعية التي شملت كل اللبنانيين .
ادارة مجتمع النزاع في لبنان لم تكن محلية خالصة في يوم من الايام بسبب الوجود الدائم للاوصياء من المنظمات والمخابرات والسفارات والقوى العربية والاقليمية والغربية والروسية، حتى امسى لبنان ساحة النزاع الاولى في المنطقة واصبح مجتمعه واقتصاده يقومان على اساس نهب الاسواق واقفالها كما هي مقفولة وخاوية وحزينة الان، واصبح الرابح الكبير في لبنان هو من يستثمر بالخراب والدمار والظلام والتحكم بضرورات الناس المعيشية كما هو حاصل الان.
بدأ ظهور انكشاف الهشاشة السياسية مع اول لجنة وطنية للحوار بعد ١٣ نيسان ٧٥ من اجل الخروج بورقة اصلاحية لتفادي ما امكن، يومها كانت المأساة هو عدم ادراك تلك الطبقة السياسية بأن الاسوأ قد اصبح هو واقع لبنان ومستقبل لبنان تماما كما هو حاصل الان من خلال الاوراق والخطابات الجريئة عالية النبرة التي تحاول التعبير عن آلام الناس مع الكثير من المراجعات والاتهامات، في حين ان مجتمع النزاع العميق في لبنان الذي ولد قبل ٤٦ عاماً في ١٣ نيسان ٧٥ يعرف ان لبنان لا يزال ساحة نزاع كبرى وأن الطريق غير سالكة وغير آمنة نحو نص انصهاري تكاملي استشرافي ريادي انقاذي لبناني كريم .