Site icon IMLebanon

نتنياهو يهرب إلى الأمام.. وإلى الوراء معاً

 

«أسبوعان أو ثلاثة في الشمال»… فقط؟

 

الهرب إلى الأمام لا يزال هو المشروع الوحيد لدى نتنياهو. هذا هو عقله السياسي والعسكري، وربما الشخصي. يعتقد أن تكبير الحجر وسيلة استثنائية لحَمْلِ الأثقال، وحين ينوء تحتها، يعمل على تبريرات ويبتكر لحربه «تطويلاً» وتعظيماً إلى مساحة جديدة. فانتقالُه من غزة التي جعلَها شبه ميتة إلى ساحة جنوب لبنان تَمّ من دون تحقيق هدف الحرب الأول على غزة وهو استعادة الرهائن الإسرائيليّين فهرَب إلى الأمام بتدمير المدينة إثرَ عجزه عن تحقيق مبتغاه، والآن يهرب إلى الأمام بالتوجّه إلى الجنوب. وفي الجنوب يتبع «السياسة» ذاتها بتدمير البيوت والقرى والبلدات المفرّغة من شعبها نتيجة القصف الأعمى، وهدفه إعادة المستوطنين إلى أماكن سكَنهم على الحدود اللبنانية، كما يقول، وعندما عجزَ عن إعادتهم هرَب إلى الأمام بمحاولة تقدّم جيشه على الأرض الجنوبية فاصطدم بالمقاومة الأسطورية. وهذا الاصطدام سيدعوه مجدّداً، كما هو متوقّع، إلى الهرب إلى الأمام بتوسيع الحرب نحو إيران. المزيد من التورية والتمويه على إخفاقاته وإطلاق شعارات جديدة، يُعتَبر قاعدة ذهبية عنده.

العالَمان الغربي والعربي يسألان عن وقف إطلاق النار، ومتى يأتي موعدُه، ولا إشارات جديّة. فوقف النار ينبغي أن تطلبه إسرائيل، كي يُنفّذ فوراً. فإذا طلبَته إسرائيل ستعتبر أميركا والمجتمع الدولي ذلك مناسبة ثمينة للجم الحرب حفاظاً على نتنياهو ودولتِه وتداعيات الحرب عليهما، ولن يحصل ذلك من دون ضربة «قوية» يفاجَأ بها وتدفعه إلى التوقف عند حدّ. أما إذا طلبَت المقاومة وقف النار، فسيكون ذلك بالنسبة إلى نتنياهو، إشعاراً بهزيمتها وبُشرى سارة سيعمد بعدها إلى تكثيف الضربات الموجعة نُشدانا لاستسلام عدوّه لا لوقف النار فقط. ومن الطبيعي أن تترتب عن ذلك خطوات أقسى وأشنَع. لا سبيل لوقف النار إلّا حين تفرغ المساحات والساحات «الجديدة» التي يبتكرها نتنياهو في معرض الهرب إلى الأمام، وإلى الوراء معاً!

 

إشارة واحدة ذكرها بعض الإعلام ولم يعلّق عليها المعلّقون ولا اهتمّ بها أغلبهم هو أن نتنياهو وجّه رسالة «خاصة» إلى أهالي الرهائن في غزة بأن «التوجّه إلى الشمال لن يستغرق أكثر من أسبوعين إلى ثلاثة». من الطبيعي أنه يكذب، لكن قد يكون اكتشف بالملموس أن مهمة جيشه بالدخول إلى جنوب لبنان ستكلّفه ما لا طاقة له به، فوضع خياراً هو هروب إلى «الأمام – الوراء» بالعودة إلى غزّة وإكمال السعي إلى تخليص الرهائن الذي يبدو مستحيلاً!

الهرب إلى الأمام إذن، هو الغد، الغد بما هو أربعٌ وعشرون ساعةً لا غير. واحتمالُه الأخطر فتحُ جبهةِ إيران بهدف إشراك الولايات المتحدة «مُرغَمةً» في الحرب وهذا مرفوض عندها حتى الآن (كحرب!). لكنْ بحصول هكذا توسّع للضربات اليهودية على إيران وإنزال أضرار تدميرية وَردّ إيران بقصف منشآت إسرائيلية، ستصبح الدولة الأميركية «العميقة» محشورةً نتيجةَ انفلات القصف الصاروخي والقصف الصاروخي المضاد على غواربه، وقد يتمّ على الأرجح استهداف كل القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة على امتدادها. وهذا السيناريو لا يزال الأميركي والبريطاني والفرنسي يعملون على تفاديه، في حين أن نظرية الهرب إلى الأمام عند نتنياهو تتمناه وتستدرجه… وتستدرجهم.

 

وفي لبنان، ورغم تصاريح وزراء أميركيين معنيّين، ومؤسسات سياسية وأكاديمية في الولايات المتحدة بأن «إسرائيل لن تحقق أهدافها بإنهاء حزب لله»! ورغم قول الرئيس الفرنسي ماكرون «المطلوب وقف تسليم الأسلحة لإسرائيل» فمعنى ذلك أن كَيل الدّوَل طفحَ من نتنياهو، مع اقتناعنا أن كَيل تلك الدول لا يطفح إلّا ضدّ العرب!

الأسابيع الثلاثة التي تحدّث عنها نتنياهو في رسالته إلى أهالي الرهائن في غزّة، كان لافتاً أنها لم تكن تصريحاً علنياً بالصوت والصورة لرئيس الوزراء الإسرائيلي حتى لا يُؤخذ عليه الموقف ويسجل في لائحة الوعود العرقوبية بالعشرات التي قدّمها لهم. كأنه يُموِّت المواضيع بالوعود المستحيلة. يموِّت موضوع الرهائن في غزّة بوعود إضافية لأهاليهم، ويموِّت موضوع عودة السكان في شمال فلسطين المحتلّة بوعود إضافية باحتلال لبنان، وربما يموِّت موضوع الرد على إيران بوعود الضربة الصاعقة على المنشآت وقد شعرَ أنها سترتدّ على بلده دماراً لمقوّمات «الصمود» من كهرباء ونفط ومواصلات وحالة «نفسية» بلغت الهذيان حسب تقارير الجبهة الداخلية. وكلّ ما يفعله نتنياهو في الوقت الراهن، يميناً وشمالاً صعوداً وهبوطاً، هو هرب إلى الإمام، مرّة بتكبير الساحات ومرّة بوعود أكبر من جبروته، ومرّة إلى الوراء لاستدراك نفسِه.

 

لكنّ النار المباشرة فعلاً تقترب بين إيران وإسرائيل. وموعد السابع من أكتوبر مثالي لإسرائيل لتضرب إيران قبله أو أثنائه، لإعلان القوة والسيطرة على الإقليم، ومثالي لإيران لترُدّ وتعلن ثباتها على كرامتها. السابع من أكتوبر هو خط النار المشتعل في الإقليم، والبَلَدَان سيعتمدان عليه في تقرير المصير!

أما تقرير «مصير» الهجوم البري على لبنان فقد بدأ منذ سبعة أيام. ولأيام إضافية مقبلة كان وسيكون الصراع على أرض الجنوب منحصراً لدى الجيش الإسرائيلي في بعض «المداخل» على الحدود للوصول إلى التلال المشرِفة، وعلى رأسها قمّة بلدة مارون الراس، التي في حال الوصول إليها ستكون مدينة بنت جبيل كالكفّ المفتوحة أمامه، وهذا يهدّد مباشرةً المدينة «الملعونة» لدى نتنياهو لأن السيد نصرلله ألقى فيها خطاب النصر عام ٢٠٠٦. في تلك الحرب وصل الجيش الإسرائيلي إلى مارون الراس وركّز دباباته بالعشرات على المشارف العُليا للمدينة وراح يتصيّد بيوتها بيتاً بيتاً فوصل فيها التدمير في نهاية الحرب إلى تسعين بالمئة من بيوتها، هذا من دون أن يتمكّن من الإنزالات العسكرية الضخمة فيها لشدّة المقاومة. الآن يبدو أن هناك قراراً مصيرياً متّخذاً من «زمن» نصرلله بمنع الجيش الإسرائيلي من بلوغ مارون الراس. والقتال الجاري هناك، وعدد القتلى والجرحى المعترَف بهم في إسرائيل، على تخوم سفح جبل مارون، بعضه معروف، وأغلبه مكتوم، وكان صادماً للمجتمع الإسرائيلي وإيذاناً له بأن الكِلفة البشرية ستكون باهظة.

قاعدة الهرَب إلى الأمام، أو إلى الوراء، معروفة وشائعة في السياسة والعسكر. لكن قاعدة نتنياهو على ما يبدو من مواقفه هي الهرَب إلى الأمام وإلى الوراء في وقت واحد. مِكَرٍّ مِفَرٍّ مقبِلٍ مُدبِرٍ معاً من الإرتباك والضياع لا من التماسُك في تقدير الأمور. وإذا كان الشَّطر الشعري المذكور يصفُ فروسيةً احترافيةً، فإن استخدامه هنا يصفُ التخبّط. يتقدّم بقدميه ويتراجع بلسانه. ويتقدّم بلسانه ويتراجع بقدميه، ويتقدم ويتراجع بقدميه ولسانه. وهذا مطلوب من أجل التعمية وزرع الحيرة في الآخرين. ومأساته أنه ناتج من حَيرة وخلخلة عند نتنياهو. وهو دائماً يحتاج إلى «فلاش». وبما أن «الفلاش» ليس متاحاً دائماً له، يغيب ويحضر ويضخّم إنجازاته مع استعراض شخصي يتقنه جيداً.

أسبوعان أو ثلاثة.. هي المدّة التي يظن فيها نتنياهو أنها ستكفيه ليعرف كيف يتوجّه. وهي مدّة ناتجة من صمود المقاومين على أرض الجنوب. صمود هشّم اقتناعاته بالتمدد على الأرض وفرْضِ نزع السلاح الصاروخي، وإبعاد المقاوَمة إلى الليطاني. ويتردد على ألْسِنة كبار المتابِعين العسكريين أنه إذا كان عناصر المقاومة بالمئات عند الحافة الأمامية، فإنهم من هناك إلى الليطاني قد يكون عددُهم ثلاثين ألفاً، ولكل مجموعة هدف محدّد على نطاق أرضي محدّد، سيستحيل على العدو مهما قتَل منهم ومن قادتهم المحَضَّرين بالبدائل الميدانية، أن يشرّدَهم أو يشرذِمَهم. والحال النفسية لمقاتلي المقاومة تنبيء بشغَف وشوق ورغبة في إنزال الهزيمة بعدوّهم، ويقاتلون من منطلق الشهادة لحفظ الوطن والأرض، ولتماسك «البيئة» التي يتمنى نتنياهو وجميع إسرائيل أن يستفيقوا يوماً ولا يجدوها، كما حلِمَ أبا إيبان يوماً وقال «أتمنى أن أستفيق غداً وأجد غزة قد ابتلعَها البحر».

حتى البحر يريده اليهود أن يكون في خدمتهم، وينفّذ أمانيهم، مع أن واقع العرب الحالي (وأوّلهم الفينيقيّون اللبنانيون) بعيداً من غزة والضفة وجنوب لبنان، أمّن لهم ما يبتغون من دون الحاجة إلى البحر!