مع فشل رهانه على انهيار حزب الله بفعل الضربات القاسية التي تلقّاها، لجأ العدو إلى الرهان على مسار سياسي يتولاه الأميركيون، مدعوماً بضغط عسكري يستهدف المدن والبلدات والقرى لتحقيق ما أمكن مما لم ينجح في فرضه بالآلة العسكرية. عدم النجاح في فرض الصيغ السياسية التي تُحوّل الإنجازات التكتيكية إلى إنجاز إستراتيجي، دفع قيادة العدو إلى الاستعانة بواشنطن من أجل فرض طروحات تحاكي إنجازاته الميدانية في الأيام العشرة بين 17 و27 أيلول الماضي، وتجاهل المتغيرات التي تلت ذلك. والمهمة الأساسية للإدارة الأميركية في هذه المرحلة تتمحور حول ممارسة ضغوط على السلطة السياسية في لبنان لتبنّي مواقف وخيارات تهدف إلى تطويق المقاومة وعزلها والضغط عليها وعلى بيئتها. لذلك، من الواضح أن العدو يراهن في هذه المرحلة على الداخل اللبناني أيضاً لمفاقمة الضغوط على المقاومة وبيئتها، بهدف التأسيس لمسارات تتعلق بمرحلة ما بعد الحرب.
في هذه الأجواء، وبالتكامل التام مع متطلبات خطة العدو، عمدت واشنطن إلى الالتفاف على الموقف الرسمي الذي لا يزال يتمحور حول القرار 1701، عبر ابتكار عنوان آليات وتفاهمات تتصل بتنفيذه. وهو عنوان مشبوه وعام جداً تسعى تل أبيب وواشنطن أن تمرّرا ضمنه ما تريدان إدخاله على القرار الدولي، بهدف الوصول إلى قرار معدل عملياً لكنه يحمل عنوان الـ1701.
حتى الآن، لا يوجد ما يؤشر إلى تراجع العدو عن هذه السقوف العالية، بل العكس هو الصحيح. فتأكيد نتنياهو قبل يومين على «إبعاد حزب الله إلى ما وراء الليطاني، وضرب أي محاولة يقوم بها لإعادة التسلُّح» و«قطع خط أنابيب الأوكسيجين التابع لحزب الله من إيران عبر سوريا»، يكشف أن السقف السياسي الإسرائيلي لا يزال عالياً جداً وأن فرص التسوية لم تنضج بعد. وهو بذلك، يُقلِّص الهامش لدى من هو مستعد في الداخل اللبناني لملاقاة الموقف الإسرائيلي في نقطة ما. أضف أنه من الصعب على أي جهة وازنة أن تبدو كمن تتبنى هذه المطالب لما يترتب عليها من تداعيات خطيرة على أمن لبنان وسيادته ومستقبله وعلى معادلته الداخلية واستقراره. لذلك فإن الأجواء التي تتم إثارتها في هذه الايام عن إمكانية التسوية في الأسبوعين المقبلين لا تستند إلى وقائع جدية وليست إلا مناورات سياسية. ولا يبعد أن تكون أيضاً جزءاً من الخداع الإسرائيلي في مقابل الرد الإيراني المرتقب عبر الإيحاء بأننا أمام إمكانية التوصل إلى حل سياسي مع لبنان من أجل ثني إيران عن خيار الرد أو التخفيف من شدته.
ما يشاع عن إمكانية التسوية في الأسبوعين المقبلين لا يستند إلى وقائع جدية
تؤكد مواقف نتنياهو أيضاً أن المخاوف التي تسيطر على وعي منظومة قيادة العدو هي من تكرار سيناريو ما بعد حرب 2006، عندما أعاد حزب الله، بسرعة قياسية، بناء قدراته وتطويرها وصولاً إلى تحوّله إلى قوة إقليمية. وما يُعزز هذه المخاوف لديه أن قيادة العدو أدركت فشل الجيش في تدمير البنية التحتية للحزب، رغم توجيه ضربات قاسية جداً لها. لكنه أكثر من يفهم تحولات الميدان ومؤشراتها واتجاهاتها. ولذلك، تُعبر هذه المواقف أيضاً عن إقرار بعدم نجاح المخطط الذي كان يطمح إليه، والنتيجة الحتمية لذلك أن حزب الله سيواصل ويعيد بناء وتطوير قدراته الإستراتيجية والعسكرية بالاستناد إلى العبر التي استخلصها من الحرب القائمة. ومن هناك ينبع تشديد نتنياهو في التزامه على أن أي صيغة ينبغي أن تتضمن قطع الطريق على هذا المسار عبر البوابة السورية وضرب أي محاولة في هذا الاتجاه.
مع ذلك، يفتح حضور هذه الوقائع الباب أمام مروحة أسئلة حول كيفية ترجمة «الوسيط» الأميركي هذه العناوين إلى نقاط محددة، وعن طبيعة علاقتها بهوية رئيس الجمهورية الجديد وبرنامجه، وطبيعة أي حكومة مقبلة وتركيبتها، وموقع حزب الله فيها، وما هي الخيارات التي يُراد إقحام لبنان ومؤسساته الأمنية فيها، وكيف سيترجم ذلك في الساحة السورية، ما دامت إسرائيل تنفذ اعتداءاتها منذ أكثر من عقد تحت هذا العنوان في الأراضي السورية ولم تنجح في تحقيق هذا الهدف. فهل هناك من بدائل تم أو سيتم طرحها في هذا الاتجاه؟
في المقابل، تبقى مسألة تتصل بتراجع حجم قوات جيش العدو المشاركة في اجتياح الأراضي اللبنانية من أربع فرق إلى اثنتين، كما أكدت إذاعة الجيش التي عرضت مسار تراجع هذه القوات بالاستناد إلى بيانات الناطق باسم الجيش، في الأسبوعين الأخيرين، وأعادت ذلك إلى أعداد الجنود الذين يسقطون في المواجهات مع حزب الله، رغم محاولات توظيف ذلك عبر ربطه بالحديث المتزايد عن تسوية سياسية!
ويبدو أن منشأ هذا القرار يعود إلى تقدير وضع أجراه الجيش خلص فيه إلى أن استمرار انتشار القوات بوضعها الذي كانت عليه، يعني استمرار سقوط الجنود وتحولهم إلى مرمى لنيران المقاومة. إضافة إلى أنه، لأسباب عسكرية وسياسية ظرفية، فإن العدو ليس في وارد تعميق توغله في عمق جنوب لبنان حالياً. وبالتالي ستبقى قواته عرضة لتلقي خسائر بشرية من دون أفق عسكري أو سياسي. لذلك عمدت إلى التراجع إلى ما وراء الحدود في هذه المرحلة إلى حين تبلور قرار نهائي حول إعادة التوغل وتوسيعه أو التوصل إلى تسوية أو بانتظار مهمات جديدة يحددها المستوى السياسي. لكن الأهم أن ذلك يعني أيضاً أن الاحتلال الذي راهن عليه العدو كي يشكل عامل ضغط على لبنان، نجحت المقاومة في تغيير اتجاهه نحو مؤسسة القرار السياسي والأمني في تل أبيب.