ليست هي المرة الأولى التي ينقسم فيها القادة في لبنان حول موقفهم من التحالفات العربية والإقليمية والدولية. فقد انقسموا في الماضي حول مشروع “الدفاع المشترك” وحول مشروع “حلف بغداد” وحول “مبدأ ايزنهاور” وحول “جبهة الصمود والتصدي” وحول مشروع “الوحدة العربية”، والآن حول التحالف من أجل مكافحة الإرهاب بإعلان تحالف عربي إسلامي من الرياض لهذه الغاية، وقد لا يكون الأخير، فضلاً عن خلاف أشدّ حول تصنيف الأحزاب والتنظيمات ما بين جهادية وإرهابية.
إن هذه الانقسامات تؤكد مرة أخرى الحاجة الماسّة الى اتفاق كل القوى السياسية الأساسية في البلاد على أي لبنان تريد قبل أن تواجه بسؤال خطير هو: “لبنان الى أين” تطرحه شدة الأزمات في منطقة حبلى بالتحولات والمتغيرات والمفاجآت قد تجعلها عرضة لرسم خرائط جديدة تغير الأنظمة داخل الحدود أو تغيّر الحدود والأنظمة معاً. لذلك فلا خلاص للبنان من عملية رسم الخرائط وتقاسم النفوذ لتجنّب خطر التقسيم سوى اغتنام الفرصة السانحة لاتفاق القوى السياسية الأساسية في البلاد، وتحديداً 8 و14 آذار على الآتي:
أولاً: تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الاقليمية والدولية وتجنيبه الانعكاسات السلبية للتوترات والأزمات الاقليمية حرصاً على مصلحة لبنان العليا ووحدته الوطنية وسلمه الأهلي ما عدا ما يتعلق بواجب التزام قرارات الشرعية الدولية والاجماع العربي والقضية الفلسطينية المحقّة، بما في ذلك حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة الى أرضهم وديارهم وعدم توطينهم. فتحييد لبنان هو تأكيد لما وافق عليه أقطاب الحوار في القصر الجمهوري في بعبدا اقتناعاً منهم بأن تركيبة لبنان السياسية والطائفية الدقيقة لا يحميها سوى التحييد بعدما دفع لبنان غالياً ثمن انحيازه لهذا المحور أو ذاك فصارت أرضه ساحة مفتوحة لحروب الآخرين. وتحييد لبنان يساعد على إقامة الدولة المدنية التي تجعل المناصب العليا مفتوحة أمام أصحاب الكفايات والجدارة الى أي حزب أو طائفة انتموا، ولا يعود المسيحيون بحاجة الى تطمينات أو ضمانات خوفاً على لبنان من خلال أن تكون لهم رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش وغيرهما من المناصب لأن المسيحي عندما يطمئن الى بقاء لبنان كياناً وهوية، فإنه يشعر عندئذ بالاستقرار سياسياً وأمنياً واقتصادياً ولا يعود متمسكاً بأي منصب يتمسك به الآن خوفاً على مصير لبنان، والهجرة تتوقف عندما يسود الأمن والسلام فيه ويقوم نظام شبيه بالنظام السويسري أو النمسوي.
ثانياً: أن تقوم في لبنان دولة قوية لا دولة سواها قادرة على بسط سلطتها وسيادتها على كل أراضيها، ولا يكون سلاح غير سلاحها كي تستطيع فرض القانون على الجميع بعدالة ومساواة، كما يستطيع القضاء المستقل العادل معاقبة كل مرتكب، فلا تظل أي منطقة في لبنان ملاذاً له، ولا يظل السلاح خارج الدولة يمنع قيامها ويلجأ حاملوه إلى العنف انتصاراً لفريق لبناني على فريق لكسب سياسي، ولا استقواء فريق بخارج على فريق آخر ينتظر الفرصة السانحة ليستقوي هو الآخر بخارج على شريكه في الوطن فتقع الفتنة والخسارة المحتملة على الجميع وهو ما يهدد أرزاق الناس ومستقبلهم ومستقبل الاجيال الطالعة.
ثالثاً: التزام القرارات الدولية ولا سيما القرار 1701، وتنفيذ القرارات التي تم التوافق عليها في طاولة هيئة الحوار الوطني تحصيناً لسياسة تحييد لبنان وضمان استمرار استقراره سياسياً وأمنياً واقتصاديا، وتأكيد الثقة بلبنان وطناً نهائياً وبصيغة العيش المشترك وبالمبادئ الواردة في مقدمة الدستور كمبادئ تأسيسية ثابتة، وبتنفيذ خطة نهوض اقتصادي واجتماعي في كل المناطق اللبنانية وضبط الأوضاع على طول الحدود اللبنانية – السورية وعدم استعمال لبنان مقراً أو ممراً أو منطلقاً لتهريب السلاح والمسلحين.
وعندما يتم الاتفاق بين القوى السياسية الأساسية، وتحديداً بين 8 و14 آذار، على أي لبنان تريد، يصير من السهل الاتفاق على أي رئيس مناسب له، حتى أن الانتخابات النيابية تجرى على أساس الالتزام بلبنان هذا، بحيث أن مجلس النواب الذي ينبثق منها وكذلك الحكومة يلتزمان أيضاً ما صار الاتفاق عليه، فيسهل عندئذ تشكيل الحكومات ولا يعود ثمة خلاف على بيانها الوزاري. أما الاكتفاء بانتخاب رئيس للجمهورية من دون الاتفاق على أي لبنان نريد فإنه يكون رئيساً للبنان مجهول المستقبل وهو ما يزيد هجرة الشباب والأدمغة منه.
فهل يبادر القادة في لبنان، على اختلاف اتجاهاتهم ومشاربهم ومذاهبهم، الى رسم خريطة لبنان المستقبل فيكون له رئيس ولا يكون رئيس بلا خريطة، لانهم إذا لم يساعدوا أنفسهم فلا ينتظرون مساعدة الآخرين لهم.