قبضت الأجهزة الأمنية الأسبوع الماضي على عنصر من «داعش» في وادي خالد. ويكاد يكون هذا الخبر عادياً، نظراً لتكرار وقائع القبض بمعدّل مرّة كلّ أسبوع، وأحياناً كلّ يوم تقريباً، على عنصر»داعشي»، وهؤلاء بعضُهم موجود في لبنان منذ فترة غير قصيرة وتتسبّب باكتشافه التحقيقاتُ التي تجريها الأجهزة الأمنية مع موقوفين «دواعش»، والبعض الآخر قدمَ إلى لبنان من مناطق شرق سوريا التي تشهد منذ أشهر سقوطَ معاقل «داعش» فيها.
وما يميّز خبرَ اعتقال «الداعشي» في وادي خالد، هو أنّ التحقيقات والمعلومات الأوّلية، اكتشفت وجود تتمّة له في معلومات مستقاة من داخل مخيّم عين الحلوة، دلّت إلى دخول ما بين ثلاثة الى أربعة عناصر من داعش إليه خلال الأسبوع الماضي كانوا قد قدِموا إلى لبنان من شرق سوريا. وأظهرَت المتابعة الأمنية لسِيَرهم الذاتية أنّهم كانوا في عداد فرقة تابعة لـ«داعش» متخصّصة بالاغتيالات.
وبحسب مصادر أمنية في عين الحلوة، فإنّ دخول العناصر الأربعة الى المخيّم لا يشكّل جزءاً مِن مسلسل حالات الهروب العشوائية التي بدأت تشهدها أخيراً صفوف «داعش» شرق سوريا في اتّجاه لبنان، بل تمثّل تسرُّباً مخططاً هدفُه تعزيز الخلايا المحترفة لهذا التنظيم داخل البلد.
وتوصي هذه المصادر بضرورة التعاطي بذهنية أمنية جديدة مع أيّ حراك لـ«داعش» في اتّجاه لبنان، حيث يَجدر مراعاة ارتباطه بالصورة العامة للنشاط الذي سيتبعه التنظيم ضمن استراتيجيته الجديدة التي بدأ بتطبيقها وبدأت تظهر إرهاصاتها الميدانية في ساحات عدة ما يدلّ إلى أنّه لم يدخل مرحلة التلاشي بل إعادة الهيكلة، وما يؤشّر الى انّ استراتيجيته الجديدة تقوم على ثلاثة عناصر:
أوّلاً- عدم التثبثِ بالأرض بل المبادرة إلى إدارة حرب عصابات فيها.
ثانياً- تنفيذ عمليات إرهابية في مناطق عدة من العالم.
ثالثاًـ الرهان على الإفادة من الخلاف الناشب حالياً بين «النصرة» و«القاعدة» لمصلحة استيعاب العناصر التي تخرج منهما.
في 28 من الشهر المنصرم، نشَر تنظيم «داعش» إصداراً مرئياً جديداً، يؤشر إليه خبراء الإرهاب بأنه «الأضخم». وحمل عنوان «لهيب الحرب الى قيام الساعة»، ومدتُه ساعة تقريباً، وتميَّز بجودةٍ إنتاجية عالية وباللغة الإنكليزية، ويعرض مشاهد تبثّ للمرّة الأولى.
وأعدّت هذا الإصدار مؤسسة إعلامية مركزية تتبع التنظيم. وتكمنُ استثنائيته، عدا عن ضخامته، في أنّ المؤسسة «الداعشية» التي بثّته قدّمته بصفته أنه يؤسّس لمنهج عملِ التنظيم في المرحلة المقبلة والأساليب التي سيعتمدها، وتقوم على ركيزتين: الأولى إدارة حرب عصابات في المناطق التي يوجد فيها. والثانية خوض عمليات إرهابية ستشكّل أحدَ أساليبه المركزية في المرحلة المقبلة.
ما يَجدر التوقّف عنده في هذا الإصدار المرئي هو الآتي:
ـ أوّلاً، لم يشِر الإصدار إلى لبنان في حديثه عن الساحات الأساسية التي سيركّز عليها «داعش» في المرحلة المقبلة، بل حدّد ثلاث ساحات حصراً، هي: سوريا والعراق وسيناء. في سوريا سيبادر الى فتحِ معارك جديدة، وفي العراق سيترك المدن لينتشر في الصحراء، وفي سيناء وهي ساحة أساسية سيَعمل على إثبات حضوره شبهِ العلني في المنطقة الصحراوية الممتدّة من مدينة العريش حتى مدينة بئر العبد.
ـ ثانياً، لا يعني ما تَقدَّم أنّ التنظيم سيهجر البلاد الأخرى، بل يوصي بتكتيكات تُناسبها من حيث ترتيبه أهميتها بالنسبة إليه، ففي ليبيا واليمن سيَستفيد من وجود بؤر لـ«القاعدة» فيها، وفي غزّة سيَعمد لأخذِ الهدوء المحسوب على ضفّتي الحدود بين إسرائيل وغزة رهينةً يهزّها كلّما تعرَّض لضغوط في ساحات أُخرى.
كما أنّ وجوده في غزّة سيرتبط بحماية سككِ إمرار «جهاديّيه» من سيناء الى غزة وبالعكس، وذلك في إطار حربِه الكبرى المنتظَرة مع الجيش المصري الذي يستعدّ بدوره لشنِّها ضدّ «داعش» في شرق سيناء. وتُحاول حركة «حماس» احتواءَ الدور الذي يخطّط له «داعش» وهي أبرمت أخيراً، بحسب معلومات «الجمهورية» اتّفاقاً مع تنظيم «الصحابة» الداعشي وبمقتضاه تُطلِق «حماس» سجناءَه في مقابل حلّ التنظيم نفسَه وإقفال نافذته الإعلامية «مركز ابن تيمية للإعلام».
ـ ثالثاً، اللافت في الحراك الجديد لـ«داعش» تبنّيه للمرّة الأولى الفلسطينيين الثلاثة الذين أصدرَت المحكمة الاسرائيلية بحقّهم قبل أيام عقوبة السجن المؤبّد لتنفيذهم «عملية سارونا» في تل أبيب قبل عام ونصف عام.
ويلاحظ في هذا المجال أنّه لم يسبق لتنظيم «داعش» ان اعلنَ مسوؤليته عن عمليات نُفِّذت داخل الاراضي الفلسطينية المحتلة، ما يؤشّر الى تعديل في أجندة عملِه لمصلحة دخوله على خط النزاع ضد اسرائيل. وهذا الأمر وجَد تعبيراً مستجداً له – بالإضافة الى تبنّيه الفلسطينيين الثلاثة – من خلال استخدام وجوده في غزّة ورقةً للتدخّل في معادلة النزاع بين «حماس» وإسرائيل بغية ابتزاز الطرفين. والسؤال الذي يطرح نفسَه هنا، هو: هل يخطّط داعش عبر وجوده الخفي في لبنان للتدخّل بالطريقة نفسِها في نزاع «حزب الله» – اسرائيل، بغية ابتزاز الطرفين أيضاً.
بمعنى آخر هل يعتمد «داعش» ضمن استراتيجيته الجديدة، فتح النارِ عبر الحدود اللبنانية على الداخل الإسرائيلي بغرضِ إيجاد حيثية له تعمل على ابتزاز اسرائيل من جهة، وعلى إحراج «حزب الله» من جهة ثانية عبر إعطاء مبرّر للقول دولياً إنّ جبهة جنوب لبنان مع اسرائيل، هي كجبهة شمال سيناء وغزّة، يوجد فيها حضور لـ«داعش» وللإرهاب المعولم!
ثمّة توقّعات يلمّح إليها إصدار «داعش» مرئية «لهيب النار»، تشي بأنّ أساليبه اللبنانية ستدخل مرحلة «إبتداعية» أو غير معهودة في الماضي. ولعلّ إرسال «داعش» خليّةً مِن فرَق الاغتيال أخيراً إلى لبنان، يشكّل مؤشّراً إلى أنّ دوره المقبل فيه مفتوح على مفاجآت غير تقليدية، ومِن أهدافها تحقيق نتائج مركّبة سياسية وأمنية وقادرة على استغلال الخصوصيات النزاعية في كلّ بلد.
ـ رابعاً، بعد العملية التي شهدها شمال سيناء يوم الجمعة في 24 من الشهر المنصرم وسَقط ضحيتها 300 مدني مصري، جرّاء مهاجمة مسلّحي مسجد الزاوية في قرية الروضة القريبة من مدينة بئر العبد وهو مسجد لأتباع الطريقة الصوفية الجريرية الذين حذّرهم «داعش» مراراً من المجاهرة بشعائرهم، وقد سبق أن خطفَ مشايخهم في تلك المنطقة ثمّ أفرَج عنهم. كان لافتاً إثر هذه العملية أنّ داعش لم يعترف بها، وأعلنَت نوافده الإعلامية تحريمها، وأكّدت أنّ شرعيي «داعش» لا يُحبّذون مِثل هذه العمليات.
ويشي نفيُ «داعش» في أنّ اتّجاهات فيه نفّذتها، وهي مجموعة محلّية تابعة له، وقد يكون لها ارتباط بأجهزة استخباراتية خارجية. غير أنّ مصادر مصرية لا تَستبعد هذا الاحتمال، ولكنّها في المقابل تؤكّد أنّ العملية نفّذها «داعش» بدليل أنّ نوافذ إعلامه كانت قبل اسبوعين قد حدّدت مدينة بئر العبد، بمثابة ساحة أساسية لعمل التنظيم خلال الفترة اللاحقة.
ولكنّ مصادر متابعة لملفّ حركة «داعش» في مرحلتها الجديدة، تؤكّد أنّ الساحة الليبية شهدت خلال الاسابيع الثلاثة الاخيرة قدومَ عناصر له من شرق سوريا، وذلك عن طريق مصراطة في الغرب الليبي وأيضاً عبر مسالك الحدود الليبية الجنوبية. وتختبئ تلك العناصر حالياً في جبال الهروج في الجنوب الليبي.
والمعروف أنّ تنظيم «داعش» يستخدم ليبيا للعبور إلى سيناء. وثمّة أسئلة عن الجهات التي تؤمّن طريق هجرة «الدواعش» من شرق سوريا إلى الحدود المجاورة مع مصر، وما إذا كانت عملية مسجد الزاوية أوّلَ تطبيقٍ عملي لأجندة أجهزة استخباراتية داخل حراك «داعش» الجديد؟