لم يكن ينقص لبنان، بعد أنفاق التأزم السياسي والفشل في تشكيل الحكومة، ومؤشرات الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي المتنامية، إلا أنفاق «حزب الله». اعتدنا القول، في الاستعارات السياسية، وعند كل أزمة، إن لبنان دخل في النفق، ونقول عند الحلول التي تهبط علينا لماماً إن لبنان بدأ يخرج من النفق.
ها هو الوطن الصغير يدخل اليوم في الأنفاق جميعها معاً، وآخرها أنفاق «حزب الله» التي اختارت إسرائيل أن تعلن عنها الآن، رغم معرفة سابقة بها، وتجعل منها حملة علاقات عامة سياسية لا حدود لها.
وبالفعل كشف وزير الدفاع الإسرائيلي السابق موشيه يعالون في حديث إلى إذاعة الجيش عن أن حكومة إسرائيل كذبت على الرأي العام حول الأنفاق، ولطالما واجهت بالنكران مخاوف سكان المستوطنات المحاذية للحدود مع لبنان، من أصوات حفر كانت تتناهى إلى مسامعهم. أما الكذب على الرأي العام فمردّه، بحسب الوزير السابق، إلى أن إسرائيل أرادت أن تضلل خصمها؛ «حزب الله»، وتتيح له التمادي في الإنشاء لإبقائه قيد الرقابة ومنعه من تغيير خططه وتحديث استراتيجياته بعيداً عن رقابتها.
الدعاية الإسرائيلية، والدراما التلفزيونية، التي رافقت خبر الكشف عن نفقين، واستمرار البحث عن أنفاق أخرى، قابلها في لبنان صمت مطبق من «حزب الله»، وهو يرى بأمّ عينيه تدمير جزء من الأصول العسكرية التي يراهن عليها في أي حرب مقبلة. وقابلها أيضاً ارتباك على مستوى الدولة اللبنانية، لا سيما بعد إقرار قوات «اليونيفيل»؛ المعنية بإنفاذ القرار الأممي «1701»، بوجود الأنفاق وامتدادها من الأراضي اللبنانية باتجاه إسرائيل، وهو عمل هجومي يضع لبنان في موقف بالغ الضعف والهشاشة.
تريد إسرائيل من حملتها تحقيق أهداف عدة، كشف عنها بشكل متفرق أكثر من تصريح أو تعليق إسرائيلي خلال الأيام الماضية، ويمكن إيجازها في خمسة:
1 – هي تسعى بلا شك لتوظيف قضية الأنفاق بوصفها مبرراً لاستكمال بناء الجدار العازل الذي تقيمه على الحدود مع لبنان، لا سيما في النقاط المتنازع عليها والتي تشكل منافذ لـ«حزب الله» فوق الأرض أو تحتها.
2- إظهار تداعي القرار «1701» وتبيان عدم صلاحيته آليةً لإدارة النزاع مع «حزب الله» وإيران، بل اتهامه ضمناً بأنه بات غطاء لـ«حزب الله» لتحديث بنيته العسكرية وتطويرها، تمهيداً لأي حرب مقبلة.
3- إعادة ترتيب الأولويات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية بشكل يؤكد صدارة الملف الإيراني و«حزب الله» والجبهة الشمالية، في مقابل خيارات أخرى تعطي الأولوية للجبهة الجنوبية؛ أي غزة. في هذه النقطة كان خروج وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان مفيداً لإعادة الترتيب هذه، لا سيما أن نتنياهو كان مصرّاً على إطفاء مناوشات غزة الأخيرة ولو بثمن سياسي كبير جداً عليه.
4 – بناء قضية رأي عام إسرائيلي ودولي تحسباً من نتائج تقدير إسرائيلي يفيد بأن إيران تتهيأ لنقل معركتها مع إسرائيل من سوريا إلى لبنان نتيجة الضغوط الروسية عليها في سوريا. فحسب الحاجة الروسية؛ فإن استقراراً ما في سوريا شرطه، بعد تجميد الاقتتال الداخلي، تجميد المواجهات الإسرائيلية – الإيرانية المباشرة وغير المباشرة في سوريا، ما يعيد إلى الواجهة بالنسبة لإيران أولوية تنشيط جهوزية جبهة جنوب لبنان.
5 – ربطاً بالنقطة الأخيرة، تبدو المناورة الإسرائيلية أيضاً جزءاً من حوار ساخن مع موسكو، حول حرية الحركة الإسرائيلية في سوريا، التي توقفت منذ سبتمبر (أيلول) الماضي بعد حادثة سقوط طائرة روسية في سماء سوريا، وما عادت إلا في الأيام العشرة الأخيرة. فإذا كانت موسكو معنية باستقرار لبنان، كما عبرت صراحة، وهي أحد أكبر المستثمرين في مستقبل سوق الطاقة اللبناني، فعليها عندها أن تتراجع عن قيودها على حركة إسرائيل في سماء سوريا… هدوء لبنان مقابل حرية حركة في سوريا، أو العكس.
بهذه المعاني الخمسة تبدو العراضة الإسرائيلية على الحدود بداية لشيء ما وليست نهاية له. وهي تندرج في سياق أعرض له صلة بالمواجهة الأوسع مع إيران، التي تقودها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وتواكبه حكومة نتنياهو وحكومات عربية بحماسة كبيرة. إذ ذاك ليس مستبعداً أن تقوم إيران المحاصرة بعقوبات شديدة القسوة بتحريك أدوات التأثير التي بحوزتها؛ وعلى رأسها «حزب الله»، في رد مؤذٍ على الأذية اللاحقة بها، دعك من أن خلق ما يكفي من الاضطراب في المنطقة بعيداً عن حدود إيران كفيل برفع سعر النفط؛ وبالتالي ضرب استراتيجية العقوبات القائمة على ميزان هش وهو: تصفير الصادرات النفطية الإيرانية مع الحفاظ على سعر نفط متدنٍ.
بكثير من وجوهه يشبه عام 2018 عام 1981… كان اجتياح إسرائيل للبنان عام 1978 قد فشل في الإجهاز على منظمة التحرير الفلسطينية. وما لبثت أن اندلعت حرب صغيرة عام 1981 انتهت باتفاق وقف إطلاق نار في يوليو (تموز) من العام نفسه، وتعرض بسببه رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن لحملة سياسية شعواء، لأن الاتفاق كان بمثابة أول اعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية. ثم كان القرار باجتياح 1982، الذي أنهى عصر منظمة التحرير في لبنان، لكنه قدم على المسرح شخصية جديدة هي «حزب الله» الذي نعرفه اليوم.