تنشغل الآن الحكومات ومراكز الأبحاث في أوروبا بنتائج الإستفتاء البريطاني والذي أدى الى الخروج من الإتحاد، مع احتمالات خروج دول اخرى. وهناك شبه اجماع بأنّ قيادة الاتحاد انشغلت بالقضايا الاقتصادية وأهملت الموضوعات الاجتماعية، ولم تعط الاهتمام المطلوب للتّطور الإنساني للفرد الأوروبي وانشغالاته وضروراته، كي تصبح الهوية الأوروبية قضية فكرية ثقافية مُجتمعية على أساس أنّ رأس المال الإنساني هو الثروة الأوروبية الحقيقية.
إنّ الاتحاد الأوروبي قام على أساس حكومات تريد وشعوب لا تريد، أي أنّه كان قضية حكومية اقتصادية سياسية أمنية ولم يكن قضية مجتمعية، وهذا ما يتناقض مع أسس المجتمعات الديموقراطية الحديثة التي تعتبر الفرد الانسان هو محور العملية السياسية. وتعترف النخبة الأوروبية أنّه كان عليها الانشغال بإستنباط الأسئلة المستقبلية بدل الاهتمام في تشخيص اللحظة الراهنة التي ثبت أنّها مضيعة للوقت، لأن سرعة التطور لا تسمح بالوقوف بالزمن بل باستشرافه ومجاراته.
إنّ اللغات الأوروبية، والتي هي أدوات التفكير، قد جعلت من المستقبل فعلاً قائماً بذاته، في حين أنّ اللغة العربية لا وجود فيها للمستقبل كفعل مستقل بل هو مرتبط دائماً بالفعل المضارع الذي يعبّر عن الحال والاستقبال، هذا بالاضافة الى فعل الأمر والفعل الماضي، أي أنّ التفكير باللغة العربية محكوم بصيغة الأمر ومراجعة الماضي والمراوحة في المضارع.
أمام هذه المعادلة لا بدّ من السؤال عن المنطلقات الفكرية الإستثنائية لدى رفيق الحريري في تجسيد المستقبل واستشرافه، والعمل على اساسه كفعل مستقل عن المراوحة، وتشخيص الحاضر بالفعل المضارع أو المراجعة بأفعال الماضي وبعيداً عن تملّك أدوات السلطة وأفعال الأمر والنهي، مما جعل من أفعاله المستقبلية والإنجازات الاقتصادية الاجتماعية محلّ تساؤل واستغراب، وذلك لعدم ارتباطها بالثقافة اللبنانية والعربية السائدة أي بأفعال الماضي والأمر والمضارع.
ينشغل العقل اللبناني الآن في تشخيص اللحظة وتفسيراتها المتناقضة، وكلّ على هواه أي مضيعة الوقت، أو في استحضار الماضي وعقائده وأحزابه وأنماطه وأدواته الطائفية وذكرياته المقيتة، وكذلك العمل على تعميق ثقافة أفعال الأمر وأدواتها القهرية والتعطيلية، مع بعض الظواهر المستجدّة التي تعبّر عن انهيار مكانة الفرد الانسان ولكن بطرق تقليدية، ومع استحضار للماضي أيضاً.
أمام هذه الانشغالات والاصطفافات غير المجدية، نستطيع أن نقول أنّه لا وجود للعقل اللبناني الاستشرافي المعني بالمستقبل الاجتماعي الاقتصادي الحديث، لأنّ العقل منشغل بإعادة التكون العقائدي والأيديولوجي الذي يحاول استحضار الماضي على عـلاّته ومآسيه، مع جنوح نحو القوّة وفعل الأمر لدى الجميع، مما يجسّد الجهل المؤكّد لمتطلبات المجتمعات والأفراد وضروراتها وتطوّرها وعلومها وتداخلها الإنساني، والتي أصبحت مجتمعات رقميّة وتفترض استنباط أسئلتها وحاجاتها من أجل الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، أي أنّ عملية اغتيال المستقبل كانت جريمة بحقّ النجاح والتقدم والتّطور والحكم الرشيد واستقرار الأجيال الجديدة مما قد يجعلّ لبنان بدون مستقبل آمن.