ما أبعد اليوم عن البارحة!
أين كان لبنان قبل 14 شباط 2004، وأين أصبح بعد عشر سنوات بلا رفيق الحريري؟…
ماذا بقي من الطموحات والآمال والأحلام التي زرعها الشهيد الكبير في نفوس وعقول الأجيال الصاعدة، ليُعزّزْ إيمانهم ببلدهم وطناً يستحق البقاء والرخاء؟..
كيف تحوّلت ورش الإعمار والإنماء إلى منصّات لتبادل الاتهامات والحملات بين أطراف طبقة سياسية غارقة في غياهب الفساد؟!
أين وكيف ولماذا؟… وعشرات غيرها من صرخات الألم وعلامات الإستفهام لا تستطيع أن تصيغ مبرراً واحداً ومقنعاً حول أسباب دوامة الأزمات والتردّي التي يتخبط فيها البلد، منذ اليوم الأول لإغتيال الرئيس الشهيد.
حالة التقهقر المستمر الذي يعيشها البلد، وتضاعف قلق اللبنانيين وخوفهم على الغد والمصير، تؤكد عجز الأطراف السياسية عن إدارة شؤون البلاد والعباد، وتبرز حجم الضياع الذي تتخبط فيه تلك الأطراف، في مهب الأزمات المحلية، وتشابكها الخطر مع الأزمات الخارجية.
يوماً بعد يوم، يزداد اللبنانيون قناعة أن التفجير الإجرامي الذي استهدف موكب الرئيس الشهيد، في مثل هذا التاريخ قبل عشر سنوات، لم يكن هدفه إغتيال رفيق الحريري وحسب، بل، وأساساً ضرب المشروع الوطني العروبي، الذي كان يقوده، والقضاء على قاعدته الإقتصادية الإنمائية الصلبة، وإزاحة خط الدفاع الأول ضد مخططات الإضطرابات والفتن المذهبية والعنصرية، التي فجّرت المنطقة في السنوات الأخيرة.
لقد كان رفيق الحريري أحد أبرز عناصر الاستقرار السياسي في لبنان، بكل ما يتطلبه هذا الإستقرار من توازن مع الآخر، ومن انفتاح نحو الآخر، فضلاً عن شبكة علاقاته العربية والدولية الواسعة والفاعلة، والتي كانت تؤمّن الدعم اللازم للوطن الصغير في الملمات، خاصة ابان الاعتداءات الإسرائيلية.
عاش اللبنانيون مرحلة مشهودة من الإستقرار السياسي مع حكومات الحريري في التسعينيات ومطالع الألفين، انتعشت خلالها الحركة الإقتصادية التي حققت نموّاً بلغ 7٪ في بعض السنوات، وازدهرت الحركة السياسية، حتى ضاقت فنادق العاصمة ومناطق الإصطياف بالنزلاء، وارتفعت نسبة الإستثمارات العربية والأجنبية في المشاريع اللبنانية، وأصبح وسط بيروت نموذجاً عالمياً لورش إعادة إعمار المدن الجديدة، وتطوير مرافق العديد من العواصم.
وانسجاماً مع رؤيته المستقبلية لدور لبنان الإقتصادي في المنطقة، وحفاظاً على مكانته كجسر للتواصل بين الشرق والغرب، أطلق الحريري سلسلة من المشاريع الاستراتيجية الكبيرة، في مقدمتها بناء مطار بيروت الجديد، الذي يحمل اسمه اليوم، ثم إعادة بناء المدينة الرياضية، وتوسيع مرافئ بيروت وطرابلس وصيدا وصور، وشق الأوتوسترادات، وانجاز المرافق الحضارية لمداخل العاصمة، وما تتطلبه من إنشاء جسور وحفر أنفاق، إلى جانب الإهتمام ببناء المستشفيات والمجمّعات المدرسية في بيروت والمناطق الأخرى.
وكما هو معروف، فان العديد من المشاريع الحيوية الجاري تنفيذها حالياً، تم اقرارها وتأمين التمويل لها في عهد الحكومات الحريرية، في حين تعثّرت مشاريع أخرى في السنوات الـ 10 الأخيرة، بسبب إما نقص التمويل، أو الخلافات السياسية العقيمة بين المتصارعين على أكل الجبنة.
والواقع أن حركة الإعمار وتنفيذ مشاريع البنية التحتية سجلت تراجعاً فادحاً بعد غياب الرئيس الشهيد، وذلك لأسباب عدّة، يبقى أهمها: عدم الإستقرار السياسي الذي طبع السنوات الماضية، وغياب التمويل الخارجي اللازم، الذي كان الرئيس الشهيد قادرا على تأمينه في أصعب الظروف وبأفضل الشروط، إضافة إلى تعثّر مشروع النهوض الإقتضادي والإنمائي الشامل، الذي كان يقوده الحريري والذي حالت اهتزازات المعادلة الداخلية دون تمكين وريثه السياسي الرئيس سعد الحريري من متابعة المسيرة الإنمائية الطموحة، التي كانت ستنقل البلاد والعباد إلى مستوى غير مسبوق في لبنان، على دروب النمو والإزدهار والرخاء.
كان الوفاق الوطني هاجسه الأول، وكان الحوار سلاحه المُفضّل، وكان الإنفتاح والإعتدال خطين متوازيين ودائمين في مسيرته السياسية.
كيف لا يكون على صورة ومضمون اتفاق الطائف، وهو الذي كان الأكثر نشاطاً خلف الكواليس، في الجلسات الماراثونية للنواب اللبنانيين، والتي انتهت بالتوصل إلى اتفاق الطائف، برعاية سعودية مباشرة، ودعم عربي ودولي واسع.
لم يكن الطائف، بالنسبة لرفيق الحريري، مجموعة نصوص ساهمت في وقف الحرب العبثية، بقدر ما تعامل معه كمجموعة مبادئ وقواعد تنظم الحياة السياسية اللبنانية، بتوازنات دقيقة، وتساعد اللبنانيين على تنظيم خلافاتهم ومناقشاتهم بأساليب ديمقراطية حضارية بعيداً عن إستخدام القوة أو إستغلال الشارع، على النحو الذي كان يحصل في مراحل سابقة.
أطلق جملة من المواقف والشعارات، تحوّلت إلى أعراف في الحياة السياسية الوطنية في لبنان، لعل في مقدمتها: أوقفنا العدد، تكريساً للمناصفة بين المسلمين والمسيحيين، بغض النظر عن أي احصاء عددي. إلى جانب حرصه على مبدأ المشاورة مع المرجعيات الروحية في المسائل الوطنية الحساسة.
كانت الحرية في صلب خطابه السياسي، خاصة بعدما قرر خوض معركة الحرية والسيادة والديمقراطية، ضد الإدارة السورية للوضع اللبناني.
تكلم كثيراً في لقاءاته مع النخب، وفي ندواته الشعبية عن عروبته التي لا يجب أن تكون على حساب وطنيته. وان إيمانه بالعلاقات مع سوريا لا يكون على حساب سيادة لبنان، وحرية القرار فيه.
ولم يشفع للرئيس الشهيد كل ما قدّمه لسوريا، خاصة في المحافل العربية والدولية، التي كان يُطلقْ عليه في بعضها لقب وزير خارجية سوريا، على خلفية حماسه للعمل على إخراج النظام السوري من الحصار والعزلة التي كانت مفروضة عليه من المجتمع الدولي.
ويمكن القول أن أحد أهداف إغتيال رفيق الحريري، هو إغتيال عروبة لبنان، بما يُمثل كدولة ووطن، في الحراك المحتدم في الإقليم والذي أوصل وضع الإقليم برمّته إلى هذه المرحلة المتفجّرة بالحروب المذهبية والعنصرية التي تضرب مداميك المجتمعات العربية المتآلفة، وتُهدّدْ بخرائط سياسية جديدة لدويلات المنطقة.
رفيق الحريري خسره لبنان أولاً..
وخسره أيضاً الإسلام المُتسامح والمُعتدل..
وخسرته العروبة الحاضنة الأكبر لمجتمعات الإقليم، المتنوّعة دينياً ومذهبياً، والمُتعدّدة ثقافياً وحضارياً.
لبنان الذي عرفناه مع رفيق الحريري، لمْ يعدْ هو بعد عشر سنوات من الإضطرابات والإنقسامات والصراعات المتناقضة والمتنافسة.
والإقليم العربي الذي عشنا فترات إستقراره وإزدهاره لم يعد كما كان بعد عشر سنوات بلا رفيق الحريري.
وكان الله في عون حامل الأمانة سعد الحريري على متابعة المسيرة الصعبة.