Site icon IMLebanon

بلادي وإن جارت عليَّ…

 

 

إلى شباب لبنان برّرت في مقالة سابقة نقمة الشباب اللبناني على الأوضاع المأساوية التي يعيشها وطنهم، وعلى من تولّوا مقاليد الحكم فيه منذ عقود طويلة، بما أرسوه من نهج فساد وإفساد، وثقافة «معليشية» لم تُقم وزناً للقانون والمؤسسات، حتى أضحت البلاد سدّاحاً مدّاحاً أمام من سعى لجعلها ساحة لتصفية الصراعات الدولية والاقليمية، مستثمراً في الحال الداخلية المتجّهة إلى التفكّك، فالانحلال، في غياب الإرادة الوطنية، التي لا يد لأحد في بلورتها، الّا إرادة اللبنانيين انفسهم. وهو أمر بعيد المنال، إذا لم يتحرّروا من المذهبية والطائفية، وينطلقوا جميعاً إلى الحال الوطنية التي توحّد صفوفهم، وتحافظ على خصوصياتهم في آن. وذلك بعيداً من المناخات الصدامية التي يُسقطها الخارج على الداخل، رغبة منه بتثبيت موطئ قدم في هذه المنطقة من العالم، ذات الحساسية «الجيوبوليتية»، مستغلاً مشاعر الحذر والتشكيك، والخوف الدائم من آلاخر المختلف، المتوارثة منذ حقبتي الاستعمار والانتداب، والتي تسكن لاوعي اللبنانيين، ويتمّ استحضارها عندما يعلو غبار المعارك الكبرى التي غالباً ما يقع اللاعبون الصغار، والعاجزون عن صوغ رؤية جامعة، تحت سنابك خيلها.

 

لكن – أشدّد على لكن- هل يعني ذلك أن نوافق شبابنا، ونشايعهم في ردّة فعلهم القاسية، التي بلغت حداً غير مسبوق في الإصرار على إدارة الظهر لوطنهم، مسقط الرأس، ولو كانت الحياة فيه جحيماً مقيماً، والطلاق مع هويتهم، في سعيهم إلى هوية بديلة؟

هل يكون الحل بالابتعاد والإعراض، والإكثار من الانتقاد، بدل أن يشكّل شبابنا المُحبط نواة لتغيير نوعي يبدأ من تحمّل مسؤوليتهم الوطنية في تحقيق التحوّل المنشود نحو لبنان جديد في المضمون، قبل الشكل.

 

فالوطن ليس حقيبة سفر، ولا فندقاً من فئة الخمس نجوم، نفزع إليه ونستظلّه عندما يدرّ علينا اللبن والعسل، ويؤمّن لنا الرفاهية، ونتركه لقدره عندما تدركه الخطوب، وتكثر فيه المشكلات، وتدلهم في وجهه آلافاق.

ليس شعراً ما اقول وأدعو اليه. هناك بلدان مرّت بما يمر فيه لبنان، وتعرّضت لجوع، واقتتال داخلي، واحتلال وإبادة، ودفعت غالياً أثمان أخطاء حكّامها، وأطماع الغير بها، لكنها قاومت وثبتت، وانتصرت على ذاتها وعلى المتربصين بها، بقوة إيمان أبنائها، وتحديداً شبابها، ونهضت من بين الركام متعظة من التجارب القاسية التي زلزلت أركانها، وكادت تزيلها، لا عن الخارطة الجغرافية، بل من الوجود المؤثر، لتمسي مجرد رقعة أرض لا تقدّم ولا تؤخّر، تضم اقواماً لا يتفقون الّا على الاختلاف.

 

على شبابنا أن يقودوا مقاومة لا هوادة فيها لاستعادة لبنان الوطن بدوره ورسالته. مقاومة حضارية لا مكان للعنف فيها، نواتها عقولهم المبدعة، والتزامهم بجعل وطنهم على قدر انتظاراتهم واحلامهم.

 

الهجرة قد تكون مقبولة لغرض توفير العيش الكريم، وضمان مستقبل لا يخشون من مطباته. مستقبل يرسمون خطوطه بعقولهم الخلاّقة، بدل الاستغراق في استنزال اللعنة على قاعدة «كلن يعني كلن» او «الجحيم صناعة آلاخر» ، او»هني. نحن ما دخلنا».

 

في مقالتي السابقة، جاهرت بتعاطفي مع ثورة الشباب، وتفهمّي لنقمتهم، وهواجسهم، ودعوت إلى الوقوف على أسباب تمرّدهم. لكني ضد اليأس، ومع الأمل، مستعيداً قول بولس رسول الأمم: «لا تحزنوا كالذين لا رجاء لهم».

 

فالأوطان التي لا تكون مشرّعة الابواب أمام رياح الأمل، ذاهبة حتف أنفها إلى السقوط، فالاندثار. والشباب وحدهم هم خميرتها، والدم الذي يجدّد عروقها، ويبث فيها روح الحياة.

 

من حق شباب لبنان أن يثوروا ويثأروا، وأن يغلظوا القول، لأنّهم في قلب الصدمة، وما حصل سدّد ضربة إلى كبريائهم وطموحهم في تحقيق ذواتهم ولكن – دائماً ولكن- عليهم ألّا يتنكروا للبنان، وينكروه ثلاثاً قبل صياح الديك، وأنّ واجبهم الإنساني والأخلاقي قبل الوطني، أن يدحرجوا الحجر الذي يرتج عليه ويثقل. فالقيامة لا تكون بالـ»نق» و»التنظير» والمراقبة عن بُعد، بل بالإقدام الإيجابي.

 

لبنان يجب أن يحيا رغماً عنا، وأن يتجدّد بقيامة تجب ما قبلها. وللشباب في ذلك اليد الطولى.

 

معهم يولد لبنان الجديد، لكن ذلك غير ممكن دون الانخراط في حركة إنقاذ، وورشة إعادة البناء… لكن ليس على رمال متحرّكة، بل على أساسات صلبة مركوزة في عمق أرضنا التي اختزنت حضارات العالم القديم والجديد، قبل أن تشوه (بضمّ التاء) بإيدي من لم يسموا إلى عظمة ما تمثل.

 

شبابنا، مرّت بي أوقات حزينة، كادت تنجح في اقتلاعي من الوطن الذي أحببت، فتصدّيت لما كان يتنازعني، وقاومت، وخرجت منتصراً على مشاعري المتأرجحة، المتناقضة، ولسان حالي يردّد مع فوزي المعلوف:

«بلادي وان جارت عليّ عزيزة

فالأهل اهلي والبلاد بلادي»

شبابنا.. قاوموا اليأس بالأمل والعمل…لا تكونوا « بروتوس»، بل كما عهدناكم، من أهل الوفاء.

إنّ لبنان ينظر إليكم برجاء، فبادلوه هذا الرجاء، ولا ترموه بسهام الخيبة.