نستذكر معاً مرور 40 سنة على الحرب الأهلية اللبنانية والتي دامت لأكثر من 15 عاماً، وانتهت بتوقيع «اتفاق» الطائف في العام 1990.
هناك مجموعة من الصور المتداخلة بين الشخصي والعام، وسأكتفي في هذه المقالة السريعة بتسجيل بعض المشاهد والانطباعات والمقارنات من وحي هذه الذكرى الأليمة.
1ـ انطلقت الشرارة «الرسمية» للحرب في 13 نيسان 1975، بحادثة «عين الرمانة»، حيث هاجمت «الكتائب» «بوسطة» يتواجد فيها ركاب فلسطينيون، ما أدى إلى مصرع 27 شخصاً وإشعال حرب أهلية اختصرت بتعليق معبّر: «الأمور ليست رمانة، بل قلوب مليانة»، لأن الانفجار سجل على اسم «بوسطة عين الرمانة « بينما هو فعلياً التقاء مجموعة عوامل متراكمة حضرت مسرح الجريمة ومنها:
ـ أزمة اقتصادية اجتماعية طبقية، عُبّر عنها آنذاك بحزام الفقر والمحرومين، وحركات مطلبية في الأرياف والأحياء الفقيرة في المدن.
ـ أزمة سياسية طائفية، رفع فيها البعض مطلب المشاركة الإسلامية، مقابل التمسك بالامتيازات المسيحية.
ـ أزمة عربية، تجسّدت بدعم المحاور العربية للقوى المتنافسة في لبنان، وقد تمحورت حول تصاعد المواجهات الفلسطينية الإسرائيلية، نتيجة الخلاف حول الحل السلمي. وترافقت مع تصاعد الكفاح المسلح وخطر التوطين وتطويق المقاومة الفلسطينية بحرب أهلية لشلّ فعاليتها.
هذه الأسباب وغيرها ما زالت فاعلة في الواقع اللبناني، ولو اتخذت أشكالاً وأسماء مختلفة. واليوم القلوب مليانة وتنتظر «بوسطة» لتفجيرها.
2 ـ في الذكرى السنوية من كل عام، عندما يستذكرها اللبنانيون عامة، ووسائل الإعلام خاصة، يُكررون بشكلٍ مملٍّ عبارة «تنذكر وما تنعاد».
السؤال الذي يطرح نفسه، أننا في كل عام نتذكرها ولكن ماذا فعلنا كي لا تتكرر؟
فأسباب حُدوثها ما زالت قائمةً ومتوفرةً والبيئة مؤاتية، واللاعبون متشابهون، والنظام الطائفي يُكرر مأساته، فهو لا يُولد إلا حروباً أهليةً مستمرة أحياناً باردة وكامنة، وأحياناً أخرى بالحديد والنار والصَّخب.
3 ـ تعليقٌ آخر نُكرّره: «حروبُ الآخرين»، والذي يعني رفع المسؤولية عن اللبنانيين وكأنّهم مُجرّد متفرّجين مغلوبٌ على أمرهم، ولا حول ولا قوةً لهم، سوى استضافة معارك ومبارزات الآخرين في بيوتهم.
لكن عملياً هذا الشعار، يعني أن لبنان واللبنانيين غير مُوجودين وغير معنيين بالحدث، وكأن لبنان ساحة ولا يستحقّ أن تكون له دولةً. وهذا أمر يشبه الاستقالة من الحضور والدور تمهيداً لإلغاء الكيان.
4 ـ نهجُ «داعش» اليوم وممارساتها، شبيهٌ بنهج ميليشيات الحرب اللبنانية، لم نكن أقل شراسةً وبربريةً ووحشيةً، لكن اليوم الإعلام ينشر ويُوسّع ويكشف عن هذه الأحداث، فالقاتل نزعته الإجرامية هي نفسها، لأنها نتيجة الحقد والكراهية والظلم والعنصرية.
5 ـ أنا من جيل عاش شبابه يتحضّر للحرب، ثم استمر عمره في الحرب، وأكمل مسيرته يتخوف من تجدد الحرب. وأذكر حواراً جرى مع صديق في العام 1975، أحدنا كان رأيه بأن حادثة «عين الرمانة» عابرة، وستمر كما تجاوزنا قطوع اغتيال «معروف سعد» وغيرها من المقدمات للحرب، بينما أحدنا الآخر توقع أنها طويلة. واليوم ما زال هذا الحوار مستمراً: هل نتجاوز السجالات والأحداث الأمنية المتنقلة ومُناوشات الحدود والخلافات حول سوريا واليمن والإرهاب و… و… و..، أم دخلنا في فتنةٍ طويلة؟
6 ـ وأنا أستذكر الحرب وأفتش في محفوظاتي التي جمعتها في بدايات حرب 1975، وقع بين يديَّ تقريرٌ سريِّ، ما زلتُ احتفظ به من العام 1978 عن الحرب، كان بين أوراقي القديمة، سأذكر بعض فقراته، وتوجد الآن تقارير عديدة تُسرب المشاريع نفسها.
التقرير المذكور يشير إلى وجود مخطط يهدف إلى تقسيم الشرق الأوسط إلى دولٍ طائفيةٍ وعنصريةٍ. يقول التقرير:
«إن الولايات المتحدة الأميركية انسحبت من الشرق الأقصى بعد عشر سنواتٍ من الحرب الفيتنامية، خيّبت خلالها آمال الدول ذات الأنظمة الرأسمالية. وفي اجتماع القمة الأميركي ـ الروسي الذي عقد في «فلاديفوستوك» تم التوقيع على صيغة وفاقٍ دولي يتلخّص بما يلي:
ـ تنسحب الولايات المتحدة من الشرق الأقصى تاركةً للاتحاد السوفياتي حق التصرف في المنطقة.
– يترك الاتحاد السوفياتي بالمقابل للولايات المتحدة حرية التصرف في منطقة الشرق الأوسط والعمل على حل…
أما الولايات المتحدة وإسرائيل اللتان خططتا لهذه المؤامرة، فقد أخذت الأولى على عاتقها مهمة التنفيذ، ووجدت لبنان من أكثر البلدان المؤهلة لذلك بسبب وجود المسيحيين فيه والمسلمين والفلسطينيين.
والبلدان التي تشملها المؤامرة هي بحسب الترتيب الزمني: لبنان، سوريا، تركيا، العراق، الأردن…
ولكون المسلمين من أنصار القضية الفلسطينية، كان المخرج يعتقد بأن العناصر الإسلامية في الجيش ستتحالف مع المقاومة الفلسطينية، وهكذا ينشق الجيش، وهذا ما يُفسر الاشتباكات التي حصلت العام 1973 بين الجيش والفلسطينيين، والتي لم تمرّ كما يشتهي صاحب المخطط، بل على العكس فإن عناصر الجيش بدوا أكثر تضامناً ودفاعاً عن القضية الوطنية ضد الفلسطينيين، الذين كانوا يكنّون لهم الكراهية. ولكن الشرارة التي أطفئت العام 1973 عادت لتنطلق العام 1975 عبر الأحداث التي تفجّرت لدوافع طائفية…
كما وتتضمّن الخطة تدخلاً إسرائيلياً في الأحداث اللبنانية بغية تدخل أميركي يقر الهدوء ويُكره الحكام على القبول بالحل المقترح لأزمة الشرق الأوسط.
ويقول التقرير: في آب 1975، أطلع أحد الضباط الفرنسيين السابقين، السلطات اللبنانية بواسطة الكولونيل بستاني، على تقريرٍ مفصلٍ حول اتفاقٍ شبيه باتفاق سايكس ـ بيكو، أُعِدَّ بين وزير الخارجية الأميركي كيسينجر، ووزير الخارجية السوفياتية أندريه غروميكو، بهدف إعادة تقسيم مناطق النفوذ بين الجبارين…
ويشير التقرير إلى أن المخطط يهدف إلى إنشاء دويلات طائفية على الشكل التالي:
ـ الدولة العلويّة: تمتدّ من اللاذقية حتى الحدود التركية.
ـ الدولة الكرديّة: ستكون في شمال العراق، وستشمل جبال كردستان وجبل سنجار.
ـ الدولة الدرزية: ستشمل المنطقة الصحراوية من سوريا وجبل الدروز.
ـ الدولة الشيعية: ستضم قسماً من لبنان يتألف من: محافظة البقاع ماعدا قضاء زحلة وقضاء عكار، كما ستضمّ قسماً من سوريا.
ـ الدولة الفلسطينية: ستُشكل من الضفة الغربية وقطاع غزة اللذين ستنسحب منهما إسرائيل مقابل احتلال جنوب لبنان.
ـ الدولة المارونية: ستضمّ المحافظات التالية: بيروت ـ جبل لبنان ـ لبنان الشمالي ما عدا عكار ـ جزين ـ قضاء زحلة.
ـ وتجدر الإشارة إلى أن المخطط لا يُحدد الأراضي لإنشاء دولة سنية، لكن من المحتمل أن يكون الأردن العنصر الأساسي في هذه الدولة».
«انتهى التقرير».
واليوم تُسرّب في الإعلام سيناريوهات متشابهة.
حرب 1975 انتهت بتسوية الطائف المتعثرة، فهل تنتهي الحروب المقبلة – الباردة او الإرهابية – الى تقسيم لبنان او زوال الجمهورية قبل أن يستكمل لبنان الكبير قرناً على ولادته على يد غورو العام 1920.
بين ربيع التغيير وخريف الأفول ينتظر المواطن اللبناني بخوف وحذر حروبه الأهلية المستمرة التي تتخللها هدنات متقطعة بين معارك دورية عبثية، وتكتسب خطورتها المصيرية بعد أن هبّت عواصف الحروب الأهلية العربية على الطريقة اللبنانية لتقلّد فتنة 1975 بدلاً من أن تستنير بتسوية 1990.