لا يزال الرئيس نبيه بري يأمل في تحقيق “لبننة” انتخاب رئيس للجمهورية بالاعتماد على وطنية القادة المستمرين في مقاطعة جلسات الانتخاب وذلك عندما يدركون أنه لم يعد ثمة مبرر للمقاطعة بعد 36 جلسة ومن دون نتيجة. لذلك عاد الى تشغيل خراطيم مياه اطفائيته ليبقي على جلسات الحوار والاكتفاء بربط النزاع لأن فضَّه مكلف ليس للمتحاورين فقط إنما للبنان كله.
واستناداً الى هذا التصوّر الذي يبقي نافذة الأمل مفتوحة على انتخاب رئيس يخرج لبنان من الأزمات التي يتخبط فيها، فإن العماد ميشال عون يستطيع أن يغيّر مواقفه وموقعه ليصبح أكثر قرباً من موقف وموقع الدكتور سمير جعجع بحيث يعوّض خسارته أصوات الشيعة في بعض الدوائر بكسب أصوات مسيحيين من خلال لوائح تتألف من مرشحين لـ”التيار الوطني الحر” و”القوات اللبنانية” وربما من آخرين إذا ظل “حزب الله” في موقعه وموقفه التزاماً منه بتنفيذ أجندة إيرانية. ولا بد للعماد عون، تأكيداً لموافقته على ورقة “اعلان النيات”، من أن يحدد خياراته السياسية، فإما يكون مع خط سياسي واحد يجمعه بالدكتور جعجع، أو يبقى في الخط الذي يجمعه بالسيد حسن نصرالله. وأولى الخطوات التي يفترض بالعماد عون أن يقوم بها تمهيداً لتغيير موقفه وموقعه هي النزول مع نوابه الى المجلس لانتخاب رئيس للجمهورية يكون قد تم الاتفاق عليه بينهما ومن ثم مع الأطراف الآخرين لأن انتخاب الرئيس بات المدخل الوحيد لحل كل الأزمات التي يتخبط فيها لبنان ويعيد تنشيط عمل المؤسسات وتفعيلها. ويستطيع الأمين العام لـ”حزب الله” السيد نصرالله أيضاً، إذا تحرر من الإرادة الإيرانية أو حررته هي منها، أن يقوم بدور المنقذ للبنان فيبدأ بسحب مقاتلي الحزب من سوريا ليصير في الإمكان العودة الى “إعلان بعبدا” الذي كان من الموافقين عليه لينعم لبنان عندئذ بالاستقرار والازدهار الثابتين والدائمين، ويصبح التنافس بين القوى السياسية الاساسية ليس على السلطة بل على من منها يعطي لبنان أكثر وليس من يأخذ منه أكثر.
إن “لبننة” انتخاب رئيس للجمهورية تتطلب من القادة الاتفاق على السياسة الداخلية والخارجية، وهذا ممكن إذا عمد كل من هو مرتبط بخارج الى فك ارتباطه به، فإذا لم يستطيعوا ذلك يكفي ان يتفق القادة الذين لا ارتباط لهم مع أي خارج على تخليص لبنان بانتخاب رئيس للجمهورية يصبح قوياً بمجرد أن يلتفّ القادة والشعب حوله وليكون فعلاً رمز وحدة الوطن، وهو ما يستطيعه على الأخص القادة الموارنة الأربعة تحديداً لأن منصب الرئاسة الأولى يخص طائفتهم، وباتفاقهم لا يعود في إمكان القادة في الطوائف الأخرى إلا الوقوف معهم.
وإذا كان الرئيس بري يبدو متفائلاً ويرى أن الاستحقاق الرئاسي بات قريباً، فلأنه يراهن على وعي القادة في لبنان وخوفهم على مصيره وسط ما يجري حوله، خصوصاً بعدما استطاع وصل ما كاد أن ينقطع بين “تيار المستقبل” و”حزب الله” وإقناع من لا يرون في الحوار نفعاً أن يقترحوا عليه البديل الأفضل سوى أن يصبح البعد جفاء، وربط النزاع ولو موقتاً لأن فضَّه أو فكَّه مكلف جداً للجميع. لذلك حسناً فعل الرئيس بري بإعادة تشغيل خراطيم مياه اطفائيته، وهو يأمل في أن يبلغ الحوار مرحلة الاتفاق على انتخاب رئيس للجمهورية، إن لم يكن من الاقطاب الموارنة فباتفاق هؤلاء على تسمية المرشح الذي لا يشكل انتخابه كسراً لأحد، ولأن دقة المرحلة وخطورتها تحتاج الى مثل هذا المرشّح.
لقد أشاع تفاهم عون – جعجع الارتياح في الوسط المسيحي، ومما لا شك فيه أن التوصل الى تفاهم بين الرئيس سعد الحريري والسيد نصرالله سوف يشيع ارتياحاً أوسع في الوسط الاسلامي، وهذا من شأنه أن يجمع القادة في لبنان في موقف واحد وموقع واحد يجسده الاتفاق على انتخاب رئيس للجمهورية ربما بالتزكية. ولا سبيل لبلوغ هذا الاتفاق والخروج من انقسامهم بين المحاور المتصارعة إلا بالعودة الى “إعلان بعبدا” الذي حظي باجماع اقطاب الحوار عليه ليصبح لبنان عندئذ “سويسرا الشرق” فعلاً لا قولاً، ولا يظل كما هو منذ عام 1943 الى اليوم ساحة مفتوحة لصراعات المحاور على اختلاف شكلها وهويتها.