لطالما اعتاد اللبنانيون أن يأتي «الفرج» الرئاسي من الخارج، إلى أن انقلبت الأوضاع اليوم فبات الخارج بانتظار الداخل اللبناني. للاهتمام الخارجي في الشأن اللبناني أسباب وظروف، وغالباً ما تكون مرتبطة بمسائل تتجاوز الواقع اللبناني بحد ذاته.
جاء الاهتمام الدولي بلبنان، في زمن الحرب تحديداً، انعكاساً لدور لبنان «الساحة» المفتوحة لنزاعات المنطقة. وكان لكل طرف نافذ، إقليمياً ودولياً، مناصرون محليون لأسباب مختلفة. فالبلاد كانت الجبهة العسكرية الوحيدة للنزاع العربي ـ الإسرائيلي، لا سيما بعد حرب 1973، وللنزاعات الرديفة المرتبطة به. أما اليوم فالاهتمام الدولي بلبنان محوره الأساس النازحون السوريون وكيفية إبقائهم في لبنان مع تأمين الحد الأدنى من الدعم الموسمي.
المراهنات المألوفة على التحولات الإقليمية والدولية، التي خَبِرها اللبنانيون ومارسها ساسته طيلة سنوات الحرب وبعدها، لم تعد تنفع. «بورصة» المراهنات تعطلت وعناصرها تبدلت إقليمياً ودولياً. انتهت الحرب الباردة منذ ربع قرن واشتعلت الحروب في المنطقة، ولا يزال البعض في لبنان أسير حقبات ولّت. هذا مع العلم أن إبعاد لبنان عن الصراعات الإقليمية بات مطلباً خارجياً بقدر ما هو حاجة داخلية.
في مراحل سابقة، ارتبط الاهتمام الدولي بلبنان عبر تداخل «الساحة» اللبنانية مع الأوضاع السورية والفلسطينية، خصوصاً بعد حرب 1967، إضافة إلى سياسات إسرائيل التوسعية في الاتجاهات كافة. أما اليوم فسوريا ساحة حروب استقطبت الدول الكبرى ودول المنطقة، والنزاع بين الفلسطينيين وإسرائيل ساحته فلسطين المحتلة.
لبنان حالياً خارج اهتمامات الدول وحساباتها بالقدر الذي يتمناه بعض اللبنانيين، والمقايضة عبر النزاعات الإقليمية، من أجل لبنان أو بسببه، لم تعد قائمة. التطورات الإقليمية في السنوات الأخيرة، بدءاً بحرب العراق وصولاً إلى «الربيع العربي» والحروب التي تلته، أفقدت لبنان وظيفة الساحة وبات في أحسن الأحوال (أو في أسوئها) ممراً رديفاً لنزاعات المنطقة أو مقراً متاحاً للنازحين.
الشأن الرئاسي في لبنان اليوم عناصره الوازنة داخلية، وإن كانت غير منفصلة عن الخارج. هذا يعني أن الاتفاق الداخلي يؤثر في قرار الخارج غير المكترث نسبياً، وإن كان لأطراف الخارج ما يكفي من النفوذ في لبنان. فلا كلمة سرّ حاسمة من الخارج، خلافاً لما كان يحصل في الماضي، ولا «طائف» أو «دوحة» جديدة، ولا اجتماعات شبيهة بتلك التي حصلت في جنيف ولوزان في زمن الحرب.
في ظل تراجع الاهتمام الدولي والإقليمي بلبنان مقارنة بمراحل سابقة، ومع غياب المبادرات التي كانت تجمع اللبنانيين لأسباب تخص أيضاً الدول المضيفة المهتمة بالشأن اللبناني، وهي الآن منشغلة بقضايا أخرى أكثر إلحاحاً وأهمية، لا بدّ أن تكون الحماية ذاتية وداخلية. وما يؤمّن الحماية المطلوبة في الظروف الراهنة هو تحالف الأقوياء في سلطة القرار على مستوى الرئاسات الثلاث. هكذا تتم لبننة الحلول بالفعل لا بالقول فقط.
فبعد تجوال الأطراف جميعها، مباشرة أو بالواسطة، لاستكشاف الاحتمالات المتاحة، قبل ترشيح الرئيس الحريري النائب سليمان فرنجية وبعده، ومع تأييد الدكتور جعجع للعماد عون، وكان سبقه تأييد «حزب الله»، تكون المداولات الرئاسية قد أخذت مداها، وباتت الخيارات المتاحة أكثر وضوحاً. أما اعتراض الرئيس بري وتردد النائب وليد جنبلاط فمدار بحث لا بدّ منه، في إطار «سلة» تفاهمات الممكن، ركيزتها الدستور والشراكة المتوازنة.
الذرائع استُنفدت، لا سيما مع توافق القوى الوازنة في الوسط المسيحي على دعم ترشيح العماد عون، ومع صعوبة التوافق على قانون انتخاب يُرضي الأطراف جميعها، وفي ظل الأوضاع السورية المتفاقمة ومواقف الرياض وطهران وسواهما من عواصم القرار، ومنها واشنطن، برغم الكلام «البلدي» الشائع إنّ الانتخابات الرئاسية الأميركية هي مفتاح الحل في لبنان، وكان سبقه ربط الاستحقاق الرئاسي بالمصالحة بين إيران والمجتمع الدولي وبالعلاقات السعودية – الإيرانية. ولم يعد في الجعبة سوى المراهنة على حرب عالمية لن تأتي.
فبعد استنفاد سيناريوهات الأوهام والأحلام، حطّ الرحال مجدداً في لبنان وعاد الجميع إلى الواقعية المتقاطعة مع مصالح الجميع. معادلة الرئاسات الثلاث تسوية ممكنة لحماية البلاد. أما البديل عنها فمزيد من التشنج والدوران في حلقة مفرغة. القرار المعلّب واهتمام الغير بالشأن اللبناني كأولوية ولّى زمنهما. وللتسوية مردود إيجابي، ولو اعترى خريطة طريقها بعض من الغموض البنّاء.
* نائب