IMLebanon

«لبننة» سوريا والعراق!

فلنفرغ حمولتنا من الشعارات البائسة والحلول البائدة، خوفاً من تجديد نسل القتلة، وخوفاً من الاعتياد على احتفالات الموت، بطرق عشناها من قبل، وببدع شنيعة وبربرية غير مسبوقة من قبل.

بشعاراتنا، ابتلينا بلعنة الحلول الاستئصالية التي تعقبها تسويات تلفيقية، تعيد تنظيم العنف، عبر توزيعه على ورثة الدم والقتل، وهو ما درجنا على تسميته بالميليشيات.

فلنفرغ حمولتنا من الشعارات، علّنا نخلعها ونعيد نصاب الحياة والاجتماع والسلطة والسياسة إلى حاضرة الإنسان الذي ضيّعته الشعارات ونفته عن المجال العام، صياغات البدائل المريبة والمشينة.

نبدأ بشعار «اللبننة» التي يتم التبشير بها كصيغة لحل ممكن، لكيانات تفجرت في كل من سوريا والعراق واليمن وليبيا… والصومال إن أمكن.

«اللبننة» صيغة سلطة وطريقة حكم وأسلوب تقاسم وبناء محاصصة طائفية، وفي الوقت نفسه، هي عيش على تخوم الانقسام واستعداد للانزلاق إلى عنف، عندما تقفل أبواب التسوية الداخلية، أو عندما يختل التوازن الإقليمي، المرتبط به لبنان، بشعوبه وأقوامه، ارتباطاً وثيقاً، غلبت عليه الأسباب الطائفية والمذهبية، ولو لبس بعضها قضايا قومية أو وطنية أو نضالية شديدة الاتصال بفلسطين كقضية.

«اللبننة» خبرناها، بمرّها وعلقمها. سلماً وحرباً. كانت لعنة، اشتقت ودرجت من «القبرصة» التي سبقتها بعامين فقط، حيث قسّمت الجزيرة إلى «شعبين» وكيانين وهويتين ومعسكرين. «قبرصة» استدعت احتلالاً تركياً، واستحضرت ويلات حرب، من قتل وتهجير ونزوح، لينتهي الأمر إلى إقامة جدار يفصل العاصمة الواحدة، بين «قارتي» «المسلمين الأتراك» و «المسيحيين اليونان». هكذا نجحت «القبرصة»، بعد فشل «الصيغة».

قبل «القبرصة» و «اللبننة»، كانت «البلقنة»: حروب مختلفة قسّمت كيانات وشعوباً وأقواماً، استغاثات بالدين والأرومة والقوى الخارجية، اصطدامات انتهت إلى إقامة جزر كيانات، سقطت تباعاً أمام عتاة الامبراطوريات الأوروبية… لا إحصاء لعدد القتلى وأعداد النازحين وأنواع العنف وأساليب التوحش.

ناظر الخارجية التركية، اكتشف بمكره الديبلوماسي، مصائب اللِّبنة الأولى لـ «اللبننة»، التي تمثلت بإنشاء نظام المتصرفية، بعد حروب اللبنانيين آنذاك، بالأصالة أو بالوكالة، ما بين أعوام 1840 و1860. لقد أدّت حروب الطوائف والإقطاع، إلى إنشاء نظام خاص في جبل لبنان (لبنان الحالي لم يكن موجوداً) قضى بتعيين حاكم مسيحي غير لبناني، من رعايا السلطنة العثمانية، وإنشاء مجلس تتمثل فيه الطوائف (وداوني بالتي كانت هي الداء). قال الوزير التركي قولته الشهيرة في وظيفة المتصرفية: «هذا إطار نموذجي لتنظيم الحرب الأهلية».

وهكذا كان، فبعد «اللبننة البدائية» التي مثلها انضباط القوى تحت سلطة العثمانيين الواهية، ونفوذ القناصل المتنامي، وجد لبنان الكبير صيغة «الميثاق الوطني»، لتنظيم خلافاته وفشل في ذلك.

هذه الصيغة التي ثبت فشلها يقترحها دي ميستورا كحل لسوريا، بعد الحروب العدمية التي ألغت الحجر والبشر والقضايا. هناك تجاهل وغض طرف عما أثمرته الصيغة الميثاقية الطائفية، من حروب ونزاعات أدت إلى تحويل الكيان إلى بؤرة عنف معدية وشرسة ومنفلتة من أي رادع. لقد استمرت حروب لبنان، التي خاضها أبناء الميثاق الطائفي، خمسة عشر عاماً، أسفرت عن اتفاق جديد، حاول الخروج من الحروب الطائفية إلى الدولة المدنية اللاطائفية، غير أن ميثاقيي الطائف و «العيش المشترك»، أفلحوا في إعادة «الجاهلية الطائفية» إلى الوجود، وبات اللبنانيون يترحّمون على أحلام نبتت ذات نهضة، حوّلتها القوى الطائفية والمذهبية إلى كوابيس ومخاوف وهواجس وتربصات وفِخاخ وخيانات متبادلة، أسقطت الدولة والسلطة والمجتمع والثقافة والسياسة في ما يشبه العدم الوطني.

هل نستعرض ما آل إليه لبنان؟ هل يمكن أخذ العبرة من عدم صلاحية صيغته (اللبننة) لأي كيان أو نظام، خصوصاً أن النتائج ماثلة وحاضرة ولا تحتاج إلى من ينبش مخازيها؟

إنه ماثل بعجزه أمامنا وأمام العالم: عجز عن مواجهة تحديات كبرى وخطيرة تزعزع المنطقة وتزلزلها. عجز أمام تهديدات إسرائيلية واغتيالات تطال كوادر المقاومة. عجز عن إيجاد حل ما، تسووي بالطبع، لسلاح المقاومة وكيفية صيانته وتأمين محيطه. عجز أمام إرهاب أقام بين أحبائه ردحاً من السنوات، ومقيم راهناً على تخوم بقاعه من الشمال إلى مزارع شبعا. عجز أمام استحقاق انتخاب رئيس للجمهورية، لأكثر من مرة (فراغ بعد رئاسة أمين الجميل، وفراغ بعد رئاسة اميل لحود، ثم فراغ بعد رئاسة ميشال سليمان). عجز أمام تأليف حكومات، لا ترى النور إلا بعد مخاضات عبثية داخلية، توقفها قرارات إقليمية و «نصائح» (أوامر) دولية. عجز أمام إجراء انتخابات وإدارة مؤسسات حيوية تهم الناس: الكهرباء والماء والمرفأ والسير وسلسلة الرتب والجامعة اللبنانية إلى آخره وإلى آخرنا.

«اللبننة» قتلت لبنان مراراً، ودي ميستورا يسوِّقه ويدعو إلى تبنيه في سوريا. ربما على قاعدة أن الحل السيئ أفضل من الحروب الأسوأ، ولكن… أي سوريا تشبه لبنان؟ أي خريطة وأي سلطة وأي سيادة وأي وحدة مجتمع وبأي هوية واستطراداً، أي عراق يشبه لبنان؟ بعض ملامح اللبننة قسمت بلاد الرافدين إلى قارات مذهبية تمارس أقصى العنف. لم يكن هولاكو بفظاعة ما شهده العراق «الفدرالي» المذهبي والعرقي. العراق، اسم على غير مسمى. العراق العربي، صار عراقاً سنياً أو عراقاً شيعياً أو عراقاً طالقاً من الأكراد؟ أي يمن قد يشبه لبنان، بعد إقحام الحوثيين لليمن في أتون حرب قبلية، ستفضي إلى تقسيم وحروب أهلية.

فلنفرغ الشعارات التي قتلتنا، ولنحاول استعادة الأفكار التي تنطلق من الإنسان أولاً، كقيمة بذاته، بل كقيمة لا تسمو عليها قيمة أو فكرة أو عقيدة أو مذهب، وذلك قبل تنسيبه إلى دين أو طائفة أو مذهب أو عرق أو لغة. والانطلاق من الإنسان، يوصل حتماً على إقامة نظام لا يفرِّق بين إنسان وإنسان على قاعدة ولاءات قبلية تفرض قسمة ومحاصصة غير عادلة، وانتقاصاً من الدولة والعدالة والحرية والمساواة.

خبرنا «اللبننة». فماذا عن «الإسلام هو الحل»؟ أيُّ إسلام هو الحل؟ لقد خبرنا الإسلام في ماضيه. لم تكن السياسة والدولة في أصله. كان الدين في حرارته الأولى واندفاعته الأولى حِلاً من السياسة. وكانت السياسة حِلاً من الدين. اختلف المسلمون، وكانوا من الصحابة ومن العائلة ومن الأوائل ومن المجاهدين ومن أقارب الرسول «اللزم». لم يختلفوا في شأن من شؤون الرسالة. اختلفوا على السلطة وعلى وراثة الرسول. اختلفوا، وهم السابقون والمبشرون بالجنة، غبَّ وفاة الرسول، في «السقيفة». ثم اختلفوا على «قميص عثمان» وما بعده من فتنة كبرى. تقاتلوا في معركة الجمل. ذهبوا إلى صفين… كل ذلك كان في السياسة. ولكن، عندما رفعت المصاحف، ثم عندما تبوأ الخوارج منصة «التكفير»، أدخل الدين في السياسة، وكان وما كان من انقسامات وشيع وفرق وإمارات وولايات وعهود. لم يسلم منها الدين في أصوله النقية ولم تسلم الجماعة من الانقسامات والحروب.

خبرنا الإسلام في السياسة حديثاً: «الاخوان» جربوا وخابوا. «الاخوان» «المعتدلون!» يخيفون المجتمع، لأنهم هم في أصل التطرف وفي أصل التكفير وفي أصل الفرق والحركات التي بلغت أوجها في ما نشهده من توحش، يفوق المخيلة وتعجز عنه عبقرية فرنكشتاين ولم تبلغه ضراوة هولاكو وتيمورلنك… أي إسلام؟ إسلام النص بريء من الدولة. اقتنصه قناصو السلطة واستخدموه لغايات لا تمت إلى الروح. هوَّلوا به، هددوا به. بشروا بالجحيم لكل مخالف لرأيهم وفتواهم. أقاموا الحد على الحرية والحد على الإنسانية. استبدلوا «إقرأ باسم ربك» بـ «اقتل باسم ربك». الإسلام هو الحل على المستوى الروحي، هو الأزمة على المستوى السياسي. ثم إن ما عرفناه، ليس الإسلام في أصوله الأولى، نصاً مقدساً. عرفناه عبر اجتهادات وفتاوى وتفسيرات. وكل اجتهاد هو إضافة بشرية. لا عصمة لأحد. كل فتوى إضافة بشرية، وكل تفسير كذلك.

الإسلام لم يحكم أبداً. لقد حكم وتحكم مسلمون، قبضوا على النص، وجعلوا منه «اُقتل باسم ربك».

الإسلام هو الحل، عندما يتحرر من الذين استخدموه في السياسة والسلطة، وعندما احتموا به من المظلومين والمضطهدين.

لقد حدث للإسلام ما حصل للمسيحية، عندما أصبحت سيفاً لا رحمة.

أليس من المعيب أن يلجأ الأزهر إلى أسلوب «داعش» لمقاتلة «داعش»؟ كيف يتبنى القتل وقطع الأوصال وجز أعناق المنتسبين لـ «داعش»؟ لا تقاتل البربرية بالبربرية. مرعب ما آلت إليه أمور الفتاوى، الفالتة من عقال العقل والرحمة، ومرعب أكثر، ما آلت إليه الحرب الدينية القائمة بين المسلمين أنفسهم.

لا. ليس الإسلام حلاً، وليس العسكر حلاً.

خبرنا أنظمة العسكر. هي أنظمة الخسارات الكبرى في مواجهة إسرائيل، وأنظمة الانتصارات الحقيرة على شعوبها. العسكر لا يطيق الحرية. الأمر له، وعسسه ومخابراته وأمنه، هي المرشد الإلزامي للطاعة. لقد أقامت أنظمة العسكر، نظام الصمت. فرضت الخرس على الشعوب. نفت الجماهير من الساحات. أفرغت العقول من الفكر. منعت الفكرة والصوت المرتفع. حرّمت القول المختلف. أقامت سوراً بين الحظوة الفاسدة والناس الغلابى.. العسكر، أنشأ حراسة تامة للفساد وأهله وحارب الكلمة بالكلمة. قمع المخالف بالسجن والنفي والتعذيب والقتل. ولما انهار العسكر، استيقظت «شياطين» المقموعة، لتعيث في الدول تدميراً وهمجية.

لا. العسكر ليس حلاً. وأنظمة الاستبداد، شاهد على ذلك.

ليس في الأفق بارقة حل. لقد أعدمت التوفيقية القائمة على التعددية الطائفية والمذهبية، صيغة الدولة، وأحيت الهويات القبلية التي استفحلت واستقوت وباتت عابرة للحدود والأوطان والقوانين. كل طائفة لها امتداد خارج بلدها. لذا، التعددية المذهبية، في السياسة، تخلف أوطانا عابرة للدول. السنة دولتهم تتألق ممن يشبههم. الشيعة تمتد أوطانهم إلى حيث يتواجد الشيعة..

إذا ماذا؟

لا أعرف. ويبدو لي، أن لا أحد يعرف. الحل ينتظر انتهاء المذبحة، المتوقع أن تستمر عقوداً. والظن يميل إلى أننا ما زلنا في البدايات، برغم ما أصيبت به «داعش» من خسائر، وخسائرها لا تمنعها من التمدد في المناطق الرخوة. معظم العالم يعيش على إيقاع الرعب الذي تدق به «داعش» عنق التاريخ.

اننا مارسنا الأساليب السيئة كلها قبل المذبحة. وليس أمامنا سوى انتظار الأسوأ، ترى، أين هو غودو؟