من غير المنطقي أن تتوالى فصول الانهيار اللبناني بأشكاله المتعددة على مختلف الجبهات. «جبهة» الرئاسة معطلة منذ نحو عام ونصف العام، عندما دخلت البلاد في مرحلة «الشغور» الرئاسي عقب فشل المجلس النيابي اللبناني في انتخاب خلف للرئيس ميشال عون الذي انتهت ولايته في 31 أكتوبر (تشرين الأول) 2022، ذلك أن تركيبة المجلس الحالي لا تتيح لأي فريق أن يستحوذ بمفرده على قرار الانتخاب، لكن تتيح لمجموعة متعاونة من الكتل والنواب تعطيل النصاب الدستوري، وهو ما حصل على مدى جلسات متلاحقة إلى أن وصل الأمر لعدم عقد جلسات قبل الحوار حول اسم الرئيس العتيد.
بطبيعة الحال، هذه الخطوة أفرغت عمليّاً «الفكرة» الديمقراطيّة والعمل المؤسساتي من مضمونه، وجعلت عمليّة الاقتراع مجرّد عمليّة تقنيّة لا يمكن تنظيمها ما لم يتم التفاهم مسبقاً على المرشح الرئاسي المحظوظ خارج المؤسسات الدستوريّة! طبعاً، لطالما كان الأمر كذلك في لبنان، أي حصول تسوية خارجيّة تُترجم نفسها محليّاً في المؤسسات المعنيّة، باستثناء وحيد عندما شهد لبنان سنة 1970 «انتخابات رئاسيّة» جديّة فاز فيها أحد المرشحيَن الرئيسيين بفارق صوت واحد عن منافسه وتبوأ الرئيس سليمان فرنجيّة يومذاك كرسي الرئاسة مقابل منافسه إلياس سركيس (الذي انتخب للمنصب نفسه بعد مرور 6 سنوات وانتهاء ولاية فرنجيّة).
المهم اليوم، أن اللبنانيين ينتظرون عمل اللجنة الخماسيّة التي تشكلّت لأجل لبنان (تضم الولايات المتحدة، فرنسا، المملكة العربيّة السعوديّة، مصر، وقطر)، والتي يجول سفراؤها في بيروت على القيادات لطلب فصل «حساباتهم» السياسيّة عن مسار الأحداث في قطاع غزة، أو الركون حصراً للتعويل على تفاهم خارجي لإخراج ملف الرئاسة من عنق الزجاجة. بالمناسبة، الانتظار اللبناني للترياق الخارجي مهين ومذل لفكرة «السيادة». وبمعزل عمّا إذا كان إشراك طهران في جانب من أعمال اللجنة الخماسيّة ممكناً، إلا أن ذلك قد يبدو مفيداً على ضوء التأثير الذي تملكه على الساحة اللبنانيّة من خلال «حزب الله». هذه القراءة الواقعيّة للأمور.
«الجبهة» الأخرى هي جبهة الجنوب اللبناني المشتعل منذ الثامن من أكتوبر الماضي كجبهة «إسناد» لجبهة غزة، التي يزداد ارتباطها «العضوي» مع مسار الحرب الإسرائيليّة على غزة، التي أكد عليها الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصرالله في خطابه الأخير عندما أكد عدم تهدئة الوضع الجنوبي قبل وقف الحرب تماماً في القطاع، وهذا ينذر بحرب «استنزاف» طويلة على ضوء التعثر المتواصل للتوصل إلى هدنة أو وقف إطلاق النار رغم المساعي العربيّة والدوليّة المستمرة في هذا الإطار.
وليس هناك ما يمنع عمليّاً توسع الحرب في جنوب لبنان لتصبح حرباً «كاملة الأوصاف»، خصوصاً على ضوء المواقف الإسرائيليّة المتطرفة التي تصدر كل يوم، وتنطوي على تهديد مباشر للبنان باستهداف عاصمته وكل مناطقه دون استثناء في حال توسع الحرب نحو اتجاهات جديدة ستكون بكل تأكيد مدمرة على مختلف المستويات.
أما «الجبهة» الثالثة في لبنان فهي جبهة الاقتصاد المتهالك الذي شهد أسوأ أزمة بتاريخه منذ نحو ثلاث سنوات، فخسر المودعون ودائعهم (أو أنهم بانتظار «غودو»)، وتآكلت الرواتب والأجور ومداخيل الطبقة المتوسطة والفقيرة، وارتفعت معدلات الفقر والبطالة، وزادت الهجرة بعشرات الأضعاف، خصوصاً بعد انفجار مرفأ بيروت الذي لم تتحقق العدالة فيه، وهو من أكبر الانفجارات في العالم وأدّى إلى تدمير بيروت وسقوط المئات من الشهداء الأبرياء.
بين هذه «الجبهات» الثلاث، يقف المواطن اللبناني حائراً وقلقاً حيال مستقبله ومستقبل بلاده التي غالباً ما كانت تُعكر فترات الاستقرار المحدودة التي يعيشها تطورات تعيد عقارب الساعة إلى الوراء، وتطرح أسئلة جوهريّة تتصل بطبيعة التركيبة اللبنانيّة والصيغة المثاليّة لإدارة التنوّع فيه والحيلولة دون انتعاش الطروحات التقسيميّة أو الفيدراليّة التي لا تتلاءم مع مجتمعه.
يبقي لبنان هو لبنان.