IMLebanon

أزمة لبنان “أعمق” من الاستحقاقات الخارجية

 

 

بعيداً من المناكفات الطبيعية التي تواكب الموسم الانتخابي، ثمة نقاش في مكان آخر يتناول سبل الخروج من أنفاق الأزمات الخانقة، وهو ما يثير المخاوف من أن تكون اعمق بكثير من ربطها باستحقاق اقليمي او دولي. فقد اثبتت التجارب انّ عدداً منها عبر من دون أن يغيّر في مجرى الأحداث، ما لم يحقق المسؤولون أقل ما هو مطلوب من واجباتهم. وعليه، فلماذا نكرّر التجربة مرة أخرى؟

لا ينسى اللبنانيون الرهانات التي عقدتها المنظومة السياسية منذ ثلاث سنوات على الأقل، عندما كانت تبشّر بمخارج وحلول لمجموعة الأزمات التي تناسلت وتوسعت، لتشكّل مختلف وجوه حياة اللبنانيين في كثير من الاستحقاقات الإقليمية والدولية، لتبرير فشلها في عقد التسويات التي يمكن ان تقفل أي منها او تضعها على طريق الحل المستدام والطويل المدى. فقد اثبتت التجارب انّ الفشل الذي حصدته لم يغيّر في الأساليب الملتوية التي اعتُمدت وما زالت تعيش حالاً من الإنكار لما بلغته المآسي الناجمة عنها على اكثر من مستوى.

وإن طُلِب من أصحاب هذه المعادلة مزيداً من التفاصيل، تكفي الإشارة الى أنّ معظم الأزمات الداخلية الناجمة عن توزّع ولاءات بعض اللبنانيين الخارجية واحتدام النزاع من حولها، قد تمّ ربطها باستحقاقات دولية واقليمية، لتبرير التصلّب الذي أبعد التفاهم على أي حل، وأبقى الفرز قائماً على الساحة اللبنانية. فقيل في مراحل سابقة، إنّ أي تفاهم يمكن أن يكون رهناً بالتحولات على الساحة السورية، سواء سقط النظام او استعاد قواه، قبل ان تنضمّ الساحة الداخلية الى الساحتين السورية والعراقية، فشاهدنا مزيداً من التعقيدات.

وفي وقت لاحق، تمّ الربط بين بعض من هذه الأزمات التي لم يتمكن أحد من مقاربتها بنتائج الانتخابات الاميركية في نهاية عهد الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب، بعدما اعتقد البعض انّ التجديد له او خسارته في المواجهة مع الرئيس جو بايدن معلّق على «إسقاط المشاريع الاميركية» في لبنان والمنطقة، متناسين حجم الملفات الأميركية الداخلية التي دفعت الاميركيين الى التغيير، نتيجة المشاركة في الانتخابات الرئاسية بنِسب غير مسبوقة في تاريخها.

وبعد ان تجاوزت الأحداث هذه الاستحقاقات، لم يتأخّر اللبنانيون في ربط المخارج المحتملة للمشكلات الداخلية، بما هو منتظر من التفاهمات ما بين موسكو وواشنطن، والجهود المبذولة لإحياء المفاوضات حول الملف النووي الايراني، قبل ان تكشف بغداد في الربيع الماضي عن رعايتها السرّية لثلاثة اجتماعات بين الجانبين السعودي والإيراني، على وقع التطورات المأزومة في اليمن، مع ما واكبها من استهداف منشآت «أرامكو» في المملكة العربية السعودية والتطورات الميدانية التي أخرجت حرب اليمن من جغرافية أراضيها الداخلية لتمتد إلى الاراضي السعودية، فاعتقد البعض انّها أحداث ستغيّر في المشهد الداخلي اللبناني، وانّ هناك انتصارات اقتربت من أن تتحقق في اليمن بعد سوريا، عقب التدخّل الروسي المباشر، ولا بدّ من ان يواجهها الخصوم ويستثمرها الحلفاء في الداخل. وتلاحقت الأزمات الحكومية والمالية والاجتماعية، ولم تغيّر النكبة التي حلّت ببيروت بعد تفجير المرفأ في 4 آب 2020 أياً من المواقف المتصلّبة، لا بل فقد زادت الضغوط الدولية، التي ترجمتها المبادرة الفرنسية التي قادها الرئيس ايمانويل ماكرون، من التصلّب لدى أهل الحكم، فعملوا المستطاع من أجل «لبننة» المبادرة حتى إفراغها من مضمونها وإعادة اللعبة إلى المربّع الداخلي بكل ما يُثبت مظاهر الفشل.

على هذه الخلفيات تعدّدت النصائح الدولية والاقليمية الى القادة اللبنانيين، بضرورة العودة الى مواجهة الأزمات التي يمكن التخفيف من حدّتها بتفاهمات داخلية، بمعزل عمّا يجري في المنطقة. ولعلّ أبرز ما كشفته تلك المرحلة، ما جاءت به الحركة الديبلوماسية الدولية والاقليمية التي جمعت سفراء فرنسا والولايات المتحدة الاميركية والسعودية ومصر، من أجل العودة الى سياسة النأي بالنفس، ليتمكن العالم من تقديم العون للبنان في بعض المجالات التي تحيي الأمل في انّ حالة الارتطام التي يعيشونها لن تطول، وانّ في الإمكان لجمها للخروج منها بأقل الخسائر الممكنة، فاحتدمت الحياة السياسية وبلغت الأزمات ذروتها، وتعدّدت المواجهات على الساحة القضائية جراء التحقيق العدلي في انفجار المرفأ، وجاءت أحداث عين الرمانة ـ الطيونة لتزيد في الطين بلّة، وخصوصاً عندما تمّ الربط بينها وبين موازين القوى المختلة التي كانت تنتظر سقوط مأرب في اليمن، لتعزيز حضورها على الساحة الداخلية.

وانطلاقاً من النظرية التي تقول إنّ كل هذه التجارب لم تغيّر في سلوكيات السياسيين في لبنان، تلاحقت المواجهات وتعدّدت وجوهها، إلى ان نشأت الأزمة الديبلوماسية بين لبنان والسعودية ودول مجلس التعاون الخليجي، فَعَلت حدّة الخطاب السياسي والمذهبي، وازدادت المناكفات التي شلّت السلطة التنفيذية، وانعكست على سير العمل في السلطة القضائية، على وقع أكبر انهيار مالي شل العمل الحكومي وأقفل الإدارات الرسمية وعجزت المؤسسات العامة عن تقديم أبسط خدماتها، وبقيت المماحكات السياسية على حالها تستخدم المؤسسات والمواقع الرسمية في مواجهات غير مسبوقة.

عند هذه الملاحظات التي تثير الرعب في نفوس المراقبين، عجزت المبادرات الديبلوماسية عن إنتاج اي حل لأي مشكلة، وأقفلت الطرق المؤدية الى البعض منها، ولا سيما تلك التي كانت تُدبّر للإسراع في مواجهة أزمة الطاقة لاستجرار الغاز المصري والكهرباء الاردنية وترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل، من أجل تقديم دفع مالي استباقي، إن تمّ الكشف النهائي عن حجم الثروة النفطية والغازية للبنان، لتشكّل مصدر ثقة تعيد المؤسسات الدولية والمانحة الى تقديم العون له عبر استئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بغية إحياء الثقة المفقودة بين لبنان ومصادر التمويل الدولية المقرضة والمانحة على حدّ سواء.

عند هذه النتائج المترتبة على خريطة المواقف من المؤشرات المالية والاقتصادية التي تحدّ من الدعم الدولي، تخشى مراجع مراقبة من أن يكون البحث عن المخارج للأزمات المتمادية بات أصعب بكثير مما كان ممكناً. وليظهر انّ الازمة التي يعانيها اللبنانيون هي أعمق من كل الاستحقاقات التي يمكن ان تنعكس ايجاباً على الوضع. وأسوأ ما هو منتظر، ان يفشل اللبنانيون في إطلاق خطة التعافي والمفاوضات مع صندوق النقد الدولي بلا خطة شاملة، وتوافق على تحديد حجم الخسائر وطريقة توزيعها على الأطراف الذين يستحقون المحاسبة وفق سلّم المسؤوليات الملقاة على عاتقهم وحجم الجرائم المرتكبة التي قادت الى ما نحن فيه.

وختاماً، فإنّ أخطر ما يمكن ان يحصل، ان يراهن اللبنانيون مرة اخرى على الاستحقاقات المقبلة، سواء الجديد المنتظر من فيينا او من المفاوضات الايرانية ـ السعودية، ليجنوا مزيداً من الخيبات. فليس للبنان ملف على طاولاتها. وما لم يقرّبوا قضاياهم على قاعدة ما يوفر المصلحة العامة بعيداً من الأحلام والطموحات الشخصية الوردية.