IMLebanon

إقتِصادُ لبنان بَينَ فشَلِ النَموذج وآفاق الحُلول

 

إنَّ الأزمة إلاقتِصاديّة الكُبرى التي نعيشُ تَداعياتِها الماليّة والنَقديّة والمَصرِفيّة، تَعكِسُ فَشَلاً ذَريعاً لِلنَموذج اللبناني الذي إعتُمِدَ في إدارة البَلَد على كُلِّ الصُعُد، خصوصاً مُنذُ التِسعينات الى اليوم. فماذا نحنُ فاعِلون؟ هَلْ مِن سُبُلٍ للخُروج ممّا نحنُ فيه؟ وأيُّ إجراءاتٍ علينا إتّخاذُها؟

 

لَسنا أوَّلَ دَولة، ولَن نَكونَ الأخيرة التي يتزَعزعُ اقتِصادُها مُوحِيَاً بسقوطِ الهَيكَل. لَكِنَّ مشكِلَتَنا الجَوهريّة أنّنا نتَصرَّف، دَولةً ومَسؤولين، وكأنَّنا نملِك تَرَف إضاعة الوَقت عِوَضَ المُباشرة في وضعِ سِلسلةِ حُلول اقتِصاديّة ماليّة ونَقديّة تِقنيّة مَوضِع التنفيذ، بالتَوازي مع الحُلولِ السياسيّة.

 

لَستُ أدري أيُّ ثقافةٍ تحكُم علاقَتَنا بالوَقت، ورُبَّما الأدَقّ أيُّ غيابٍ للثقافة. فالحُلولُ التي كانتْ صالِحةً عَشيّة ١٧ تشرين الاول والتي طَرَحَتْها ورَقَة بعبدا الاقتِصاديّة في ٢ أيلول مِنْ ضِمنِ سَلَّةٍ مُتَكامِلة اقتِصاديّة وماليّة واجتِماعيّة، لَمْ تَعُد كافيَة اليوم. ولنْ أتحَدَّثَ عَن الصَرخَة التي أطلَقتُها في المؤتمَر الصُحُفي في ٤ نيسان ٢٠١٩ مُحَذِّراً مِن السياسات الماليّة والنَقديّة المُعتَمَدة منذُ سَنَوات ومُقتَرِحاً عَدَداً مِن الحُلول.

 

للأسَف، كانتْ صَرْخَةً في بَرِّية، وقعَتْ على آذانٍ صَمّاء.

 

هَدَرنا كَثيرَاً مِن الوَقت، ومَع ذَلِك، فانَّ المُبادرة اليوم للإنقاذ مُمكِنة ومُتاحَة إذا ما اعتَرفَ جميعُ المَسؤولين بِحَجمِ المَخاطر التي تُهَدِّد البَلد والناس في أمنِهم الاجتِماعي والاقتِصادي. فالإنكارُ والمُكابَرةُ، والإستِمرار ُفي التَعميَة على عُمقِ الأزمة، ومُحاولاتُ الخَلاص الفَردي أو الحِزبي أو الطائفي وصَلَت الى حائطٍ مَسدود. ولا يَشفَعُ لأيِّ فريقٍ اعتِكافُه اليَوم أو استقالتُه أو تعفُّفُهُ النَظَري عَن شَراكتِه بالمَسؤوليّة.

 

لقَد طالَ السُكوتُ على عِلَّتِنا التي يتَمادى بَعضُهُم في مُحاولةِ إخفائِها حَتّى تَكادُ تَقتُلُنا، وامتَنَعوا الى الآن عَن إعتِمادِ الدواء الناجِع خَوفاً مِن مَرارتِه، مُتَجنِّبين الإقرار بِأنَّ الوقائع وتطَوُّراتِها هيَ الأشَدُّ مَرارةً على الكَيان اللبناني واللبنانيّين مُنذُ الحَرب العالميّة الأُولى.

 

في أوائلِ التِسعينات، كانَتْ نِسبَةُ الدَين العام لإجمالي الناتِج المَحَلّي نحو ٥٠٪ وقَد راكَمَ مَنْ حَكَموا البَلد وتَحَكَّموا بسياساتِه الماليّة والنَقديّة، دُيوناً هائِلة أنهَكَت الإقتِصاد. قَارَبَ إجمالي الدَين العام الـ ٨٩ مليار دولار في نِهاية ٢٠١٩ ليُشَكِّلَ حاليّاً نِسبَةً لا تَقِلّ عَن ١٧٧٪ مِن إجمالي الناتِج المَحَلّي، وقَد تَقتَرَب سَريعاً من عَتَبَة الـ٢٠٠٪ الخَطيرَة نتيجةَ تنامي الدَين وإنخفاض حَجم الناتِج بِفعلِ الإنكماش الاقتِصادي.

 

إحتُجِز َالبَلد في دَوّامَةٍ مُغلَقَة وأصبَحَ مُرتَهَناً للمَدينين عِلماً بأنَّ نحو ٨٨٪ مِن إجمالي الدَين العام هو دَينٌ داخلي، جُزءٌ مِنه بالعُملات الاجنَبيّة.

 

فَمَنْ يُمسِك بالدَين العام اللبناني؟

 

يَتَوزَّع هذا الدَين على مؤَسَّسَاتٍ دوليّة (نحو ١٢٪ دَين خارجي)، وعلى مؤَسَّسَاتٍ لبنانيّة كالضَمان الاجتِماعي ومؤَسَّسَة ضَمان الودائع وعلى أفراد (٩٪)، وعلى المَصارِف اللبنانيّة (٣٨٪)، ومَصرِف لبنان (٤١٪).

 

وإنَّ وَجهاً مِن وجوه المأساة التي يَعيشُها اللبنانيّون اليَوم يتَمَثّل باستِحواذِ مَصرِف لبنان على الجُزء الاكبَر مِن إيداعات اللبنانيّين في المَصارِف بالعُملات الاجنَبيّة. وقَد «تَبَخَّر» مِنها عَبر السَنوات نحو٤٠ مليار دولار إستُخدِمَ مُعظَمها في تسديد جُزءٍ مِن التِزاماتِ الدَولة تِجاه الخارِج وفي ما سُمّيَ «هَندَسات ماليّة» كما في فوائِد عالية لِودائعَ لغَيرِ المُقيمين.

 

تُرجِمَ ذلِك تَناقُصاً في الثَروَة الوطنيّة النَقديّة بالعُملات الاجنَبيّة وإذلالاً للبنانيّين في المَصارِف وَهُمْ يُطالِبونَ بِحَقِّهم في أموالِهم.

 

حَدَثَ كلُّ ذلِك مِن دونِ تَدَخُّلٍ أو مُساءَلةٍ مِن قِبَل الجِهات السياسيّة والماليّة المَعنيّة، كَي لا أقولَ تَواطؤَ بَعضِهم، ووَسْطَ تأكيدِ حاكِم مَصرِف لُبنان المُتَواصِل على «إستقرار ِالعُملة الوطنيّة»!

 

 

لِذا، تَفاجأ اللبنانيّون بِما حَلَّ بِهِم مِن ضِيْقٍ وقِلَّةٍ وإنسدادِ أُفُق؛ وقد تَبيَّن لَهُم أنَّ استِقرارَ الليرة اللبنانيّة غَيرُ مؤَمَّن وأنَّ اليَومَ الأسوَد ذهَبَ بالقِرشِ الأبيَض لِمِئاتِ الآفِ المُودِعين في المَصارِف، وكَشَفَ عَن هَشاشَة النَموذَج المالي والنَقدي اللبناني.

 

فَهَلْ مِن حُلول؟ وهَلْ مِن إمكانيّةٍ بَعْد لِلخُروج مِن هذا النَفَق عِوَضَ الإيغالِ فيه؟

 

الأكيد أنَّ هُنالِكَ دائماً حُلولاً، وهيَ على أكثَرِ مِن مُستوى مالي، نَقدي، اقتِصادي واجتِماعي. لَكِن يبقى مِفتاحُها جميعاً إستِعادةُ الثِقة على أساس خرِيطة طريقٍ تَتَبنّاها الحُكومة، تُطلِق مِن خِلالها خُطَّةَ طوارئ إنقاذيّة يَسهَرُ على تَطبيقِها فريقُ عمَلٍ مُتَجانِس وكَفوء، يُصارِحُ الناسَ بالوقائِع والمُعالجات. حُلولٌ لا تنطلِقُ فقط مِن عمليّاتٍ حسابيّة وتقنيّة ماليّة ونقديّة مَطلوبة، بَلْ تعمَلُ ايضاً على تأمين شَبكات أمانٍ اجتماعيّة، خُصوصاً وسْطَ تزايُدِ حَجمِ الفَقر والبَطالة وإنسدادِ الأفُق لدى كثيرٍ مِن اللبنانيّين.

 

حينها، وتحتَ سَقفِ الشفافيّة والمُساءَلة ومُكافَحَة الفساد، يُمكِن تفصيل الكلامِ عَن تَصفير العَجز في الماليّة العامّة الناتِج من الإنفاق غَير المُجدي. ويُفتَرَض الإتفاق على ترتيبِ الدَين العام، وإعادة الرُوح الى الإقتِصادِ المُنتِج لِخفض العَجز التِجاري وخلْقِ فُرَص عَمَل. ويُفتَرَض مواصَلة تشجيع رسمَلَة المَصارِف والعَمَل على دَمج بعضِها، كما السَعي الجَدّي لاستِعادة الأموال المَنهوبَة والمَوهوبَة.

 

لَقَدْ استُنزِفَتْ فِكرَةُ «المُعجِزة اللبنانيّة» في الاقتِصاد بِما لها مِن تداعياتٍ واضِحة على القضايا الاجتِماعيّة والسياسيّة. لَكِنْ ما بَينَ المُعجِزة والعَجز ثَمّةَ مكانٌ للإنجازِ والإنتاجِ والنُهوضِ بلبنان، وهوَ ما يَتَطلَّبُ مُبادراتٍ جَريئة في السياسة والاقتِصاد، تُعيدُ ثِقَةَ اللبنانيّين والمُستَثمِرين والمُجتَمَع الدَولي بالبَلَدِ والدَولَة.