على الرغم من أهميّة الاستحقاق النيابي الانتخابي الذي سيخوضه لبنان بعد نحو أسبوعين (ما لم تفتعل قوى الممانعة وحلفاؤها الصغار أو الكبار ما يعطله)، وعلى الرغم من انعكاساته الكبيرة المرتقبة على موازين القوى في الساحة الداخليّة؛ فإن ثمة استحقاقات أخرى داهمة تنتظر لبنان في الأشهر المقبلة، في مقدمها انتخابات رئاسة الجمهوريّة بحيث تنتهي ولاية الرئيس الحالي ميشال عون في الحادي والثلاثين من أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، وهي المهلة التي حددها الدستور بست سنوات غير قابلة للتجديد أو التمديد، وهو البند الذي خُرق مراراً في المراحل الماضية.
يُنتخب الرئيس اللبناني من قِبل المجلس النيابي وليس بالاقتراع الشعبي المباشر؛ لأن النظام اللبناني هو نظام برلماني وليس نظاماً رئاسياً، على الرغم من تمتّع الرئيس بصلاحيات كبيرة على عكس ما يُشاع. صحيحٌ أن صلاحيات الرئيس قد تقلصت بعض الشيء من خلال اتفاق الطائف الذي حوّل السلطة التنفيذيّة إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، ولكن الصحيح أيضاً أن رئيس الجمهوريّة لا يزال يملك صلاحيات متعددة تمكّنه من أن يمتلك تأثيراً واسعاً في عمليّة تأليف الحكومة وتالياً في أعمالها ومقرراتها، مع ما يعنيه ذلك من انعكاس مهم على مختلف شؤون البلاد وشجونها.
إذا لم يكن الرئيس اللبناني هو صاحب القرار الأوحد في الحكم بفعل تركيبة النظام اللبناني وطبيعته التعدديّة، إلا أن ذلك لا يلغي أهميّة دوره في الحياة الوطنيّة والسياسيّة بما يتعدّى المنصب الرمزي الذي يشغله بعض القادة في بعض دول العالم من دون أن يكون لهم عمليّاً صلاحيات تُذكر (مثل الرئيس الألماني، إذ تُناط الصلاحيات إلى المستشار، أو ملكة بريطانيا، حيث يدير رئيس الوزراء شؤون البلاد). في لبنان، الرئيس له دوره وصلاحياته وعمله المباشر مع مختلف اللاعبين السياسيين من داخل الدولة وخارجها.
لقد قدّم الرئيس اللبناني ميشال عون مثالاً حيّاً عن كيفيّة استباحة الصلاحيات في اتجاهات تتجاوز النصوص الدستوريّة وشوّه مفاهيم الدور الجامع للرئاسة وضرورة وقوفها على مسافة واحدة من جميع اللبنانيين مواصلاً اعتماد السياسات التي تتناسب وتيّاره السياسي ومصالحه الفئويّة الخاصة. فهو عطّل، بطريقة منهجيّة ومنظمة، تأليف الحكومات في عهده طالما لم يحظ مع فريقه السياسي بما يُسمّى «الثلث المعطل» التي صدّرها محور الممانعة أخيراً إلى العراق. ولم يمانع أن تمر أشهر طويلة من عهده من دون حكومات فاعلة بسبب تمسكه بمطالبه الخارجة عن الدستور.
المهم الآن، أن نتائج الانتخابات النيابيّة المرتقبة سيكون لها مفاعيلها المباشرة على الانتخابات الرئاسيّة اللبنانيّة. صحيحٌ أن اختيار الرئيس اللبناني قلّما كان مجرّد عمليّة اقتراع أوتوماتيكيّة في المجلس النيابي بقدر ما كان نتيجة تسوية دوليّة – إقليميّة معيّنة، لكن هذا لا يلغي أن تركيبة المجلس النيابي وتوزع خريطة القوى السياسيّة فيها وتحالفاتها له أيضاً تأثيره البالغ في هذا المجال.
من هنا، فإن لعبة «شد الحبال» التي بدأت في الكواليس حيال ملف الانتخابات الرئاسيّة تشي بالكثير من التجاذبات المرتقبة. قوى الممانعة تكرّر أنها لن تقبل برئيس من خارج صفوفها، في حين القوى السياديّة تتقاطع في المنعطفات الأساسيّة من دون أن تمتلك رؤية موحدة فيما بينها لاعتباراتٍ متنوعة ومختلفة.
البطريركيّة المارونيّة، بما تمثّله من ثقل وطني ومعنوي، خصوصاً في اختيار الرئيس الماروني للبنان، بعثت بالعديد من الرسائل السياسيّة؛ أوّلها تمثّل في قطع الطريق على فكرة التمديد أو التجديد للعهد التي كان يُلمّح إليها بعض صغار قوى الممانعة أو أبواقها. ليس هناك من عاقل واحد يمكن له أن يفكّر في هذا الخيار الانتحاري أو الجهنمي لثلاث أو ست سنوات مقبلة. وتواصل البطريركيّة بعث الرسائل شبه الأسبوعيّة في اتجاه إرساء أسس واضحة للتعامل مع الاستحقاق الرئاسي على أنه محطة مفصليّة تتطلب حسن الاختيار بما يتلاءم مع التحديات الهائلة والاستثنائيّة التي يمر بها لبنان.
إن وضع ملف الانتخابات الرئاسيّة اللبنانيّة على نار حامية بعد الانتهاء من الاستحقاق النيابي في إطار السعي لقطع الطريق على قوى الممانعة لترشيح إحدى شخصيّاتها الصدامية هو من أولويات المرحلة اللبنانيّة المقبلة. لقد دمر «الرئيس القوي» لبنان في السنوات الست الماضية. لبنان في حاجة إلى رئيس معتدل يفهم طبيعة التوازنات الداخليّة ويعزّز علاقاته الخارجيّة، لا سيّما العربيّة منها، ويكرّس مناخات الاستقرار الداخلي، ويكون مُنزهاً عن المصالح الخاصة والفئويّة.
لبنان مرة جديدة يقف أمام مفترق طرق صعب، ولكن ألم يكن دوماً كذلك؟