منذ اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة وبعده اجتماع وزراء خارجية الدول الاسلامية في جدة، قال وزير خارجيتنا غير مرة إنه يعتمد سياسة النأي بالنفس التي أقرّتها الحكومة، مترجماً ذلك بانحياز عملي الى الموقف الايراني ضد الإجماع العربي، وضارباً بعرض الحائط مصالح لبنان واللبنانيين في دول مجلس التعاون الخليجي.
ولتقويم مدى سلامة موقف وزير الخارجية حينها، ما علينا إلّا تقويم النتائج، والنتائج وخيمة واضحة أوصلتنا اليها هذه السياسة سواء لجهة الوضع المُقلق لبعض اللبنانيين في دول مجلس التعاون الخليجي بما في ذلك عدم تجديد بعض الإقامات أو رفض إعطاء تأشيرات لآخرين، وتراجع تحويلاتهم السنوية الى لبنان، أو لجهة تناقص مجيء الأشقاء الخليجيين الى لبنان ما أثّر سلباً في حركة المطاعم والفنادق والسياحة والاقتصاد عموماً في لبنان، وفي حركة التصدير الى تلك الدول، إضافة الى إنهاء هبتَي الأربعة مليار دولار السعوديتين الى الجيش والقوى الأمنية في لبنان. وهذا كله على سبيل المثال لا الحصر.
وكرّر وزير خارجيتنا القول «أعطوني قراراً جديداً في مجلس الوزراء، وأنا مستعدّ لتغيير الموقف»، موحياً بأن لا نصّ يستند اليه للإلتزام بالإجماع العربي، علماً أنّ البيان الوزاري للحكومة الحالية حكومة المصلحة الوطنية عام 2014 يقول: «… وذلك احتراماً وتنفيذاً لمقررات الحوار الوطني الصادرة عن طاولة الحوار في مجلس النواب بدءاً من العام 2006 في مجلس النواب وعن هيئة الحوار الوطني في القصر الجمهوري في بعبدا»، أي أنّ مقررات «إعلان بعبدا» هي جزء من البيان الوزاري.
و«إعلان بعبدا» ينصّ في فقرته 12، وهو ما استند اليه وزير الخارجية، على «تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الإقليمية والدولية وتجنيبه الانعكاسات، حرصاً على مصلحته العليا ووحدته الوطنية وسلمه الاهلي».
ولعلّ الوزير لم يقرأ تتمة العبارة التي تقول «ما عدا ما يتعلق بواجب الالتزام بالقرارات الشرعية الدولية والاجماع العربي». هذا الإجماع حصل فعلاً في مؤتمر القاهرة وفي مؤتمر جدة، وخرج عنه وزير خارجيتنا.
وبالعودة الى البيان الوزاري، فالفقرة الاخيرة تقول: «تقتضي الحكمة في هذه الاوقات العصيبة التي تمرّ بها منطقتنا أن نسعى الى تقليل خسائرنا قدر المستطاع، فنلتزم سياسة النأي بالنفس ونحصّن بلدنا بأفضل الطرق». وكان الوزير يتوقف عند هذه النقطة ولا يكمل القول: «تجاه تداعيات الأزمات المجاورة، ولا تعرّض سلمه الأهلي وأمانه ولقمة عيش أبنائه للخطر». بينما ما قام به فعلاً هو تعريض لقمة عيش أبنائه للخطر.
وعلى رغم كل ذلك استمرّت للأسف مواقف البعض الآخر، المتمثّلة بـ»حزب الله» وحلفائه، تصعيدية ومعادية للمملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي.
ولعلّ استقبال خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز لرئيس حكومة لبنان تمام سلام مع الرئيس سعد الحريري ساهم في بَلسمة الجروح البليغة التي تَسبّبت بها سياسة الخارجية اللبنانية وأصابت وخَرّبت العلاقات الرسمية، والأخطر ما خَرّبته من علاقات مع شعوب دول مجلس التعاون الخليجي، والتي برأيي تحتاج الى جهد إضافي لمعالجتها.
المطلوب ببساطة، سياسة إيجابية واضحة ومستقرة للحكومة اللبنانية تجاه المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي تعكسها بشكل واضح وزارة خارجيتنا تضع نصب أعينها مصلحة اللبنانيين. والمطلوب أيضاً من كل منظّر وموغِل بتخريب هذه العلاقة أن يدرك حَجم الكوارث التي تَسبّب بها والاقلاع عن ذلك.
في الماضي وعَد وزير الطاقة السابق اللبنانيين بتغذية الكهرباء 24/24 في 2015 وكانت النتيجة كارثية على مدار الساعة، ووعد وزير الاتصالات الأسبق هذا القطاع بإنجازات «مُبهرة» رأينا إبهارها السلبي جميعاً. أمّا اليوم فقد أوصلنا وزير الخارجية الحالي، وهو بالمناسبة الوزير نفسه في الحالات الثلاث، الى ما وصلنا اليه من كوارث في علاقات لبنان العربية والخارجية. وللحديث صلة.