بين مشهدَي حاكمية مصرف لبنان ومهمة الموفد الفرنسي جان إيف لودريان، لا تتصرف القوى السياسية على أن لبنان في قلب العاصفة. ما قيل في اللجنة الخماسية يتعدّى إنهاء مبادرة فرنسا، إلى الحديث عن مستقبل لبنان
لعل أفضل تعبير عن الانهيار الذي يعيشه لبنان هو أداء القوى السياسية في ملف حاكمية مصرف لبنان، في وقت كان فيه الموفد الفرنسي جان إيف لودريان يستكمل مهمته في بيروت، ليس بحثاً عن حل سريع لأزمة الرئاسة العالقة، بل لتمديد فترة الآمال بخرق ما في الأشهر المقبلة. وفي مقارنة المشهدين، يكمن سرّ تفوق القوى السياسية في عدم التصرف على مقدار ما يصلها من معلومات وتحذيرات حول مستقبل لبنان. فما قيل في اللجنة الخماسية في الدوحة، من بحث جدي حول مصير لبنان ومستقبل نظامه والتشدد في تحديد مواصفات الرئيس المقبل، والتمسك باتفاق الطائف دستوراً وحيداً للبنان كخطوة ترى فيها السعودية إقفالاً للباب على أي مساومات حول نظام لبنان، يعكس جانباً من النقاشات التي دارت وسط الخشية الجدية على ما يقبل عليه لبنان.
لم تكن زيارة لودريان إلا محاولة لإبقاء خيط رفيع من التواصل بعدما سبقته الرسائل الواضحة، وليس فقط عبر البيانات الرسمية الصادرة من الدوحة. فمشكلة القوى السياسة التي عرفت مسبقاً أن لودريان لم يأتِ بأيّ أمر عمليات تنفيذي لخطة واضحة، أنها لم تتلقّف بجدية التحول الفرنسي والدخول العربي على خط الأزمة. وتعاملت مع زيارته من باب «المجاملات الاجتماعية والصور والتسريبات»، من دون الأخذ في الحسبان أن مجرد زيارته من دون أجندة يعني أن الوضع اللبناني سائر أكثر الى قلب العاصفة، ولا سيما أنها تعاطت مع مناقشات الدوحة التي ستترك تداعياتها لأشهر مقبلة على لبنان، على أنها مجرد بيان رسمي وليس سياسة مستجدّة لها تبعاتها.
والمشكلة الثانية هي أن رمي المسؤولية على فرنسا وحدها في تخبّط الأشهر الماضية، يعكس جانباً من المشهد العام. لأنه سبق للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفسه لدى زيارته بيروت إثر انفجار المرفأ، أن ردّد أنه لا يستطيع أن يقول عن المسؤولين اللبنانيين إنهم غير موجودين، لا بل إن الشعب اللبناني هو الذي اختارهم، وتالياً لا تتحمل فرنسا المسؤولية ولا تحلّ مكان السيادة اللبنانية. من هنا، كان رهان بعض العواصم العربية والغربية منذ ما قبل انتهاء عهد الرئيس ميشال عون على أن لبننة الاستحقاق ممكنة. لكن الفرصة تبدو الآن شبه مستحيلة، باعتراف مناقشات لقاء الدوحة.
ولعل التعاطي مع استحقاق انتهاء ولاية حاكم المركزي، شكّل أمام هذه العواصم مرة أخرى نموذجاً حول كيفية إدارة الأزمات المتفاقمة، والتي يمكن أن تطاول لاحقاً موقع قيادة الجيش، كموقعَين مركزيَّين في السياسة العامة، المالية والأمنية. وهو عكس حالة مماثلة لاستمرار أداء القوى السياسية في سنوات الأزمة الأخيرة منذ 17 تشرين 2019.
فالنقاشات حول مصير الحاكمية جرت بأسلوب يظهر وكأنّ هناك دولة قائمة بذاتها، وأن رئيس الجمهورية موجود في مقرّ الرئاسة الأولى، وأن الحياة السياسية مستمرة على وقع يومي روتيني. وفق هذا المعيار، كان يمكن القول إن القوى المسيحية أخطأت بعدم استغلال الفرصة والذهاب إلى تعيين حاكم جديد، ولو كان ذلك خرقاً دستورياً بمعنى توصيف حكومة تصريف الأعمال وعدم أحقّيتها إجراء تعيينات. لكن كل هذه العناصر الأساسية غير متوافرة، حتى إن الحكومة عدا كونها حكومة تصريف أعمال، هي حكومة انبثقت عن المجلس النيابي السابق، وليس الحالي، رغم كل ما يُسجّل على أدائه. ومع ذلك، أخذت القوى السياسية ملف الحاكمية إلى مكان حساس ودقيق، في اللعب على التوازنات والرهانات والألاعيب السياسية ورمي كرة النار من فريق إلى آخر. فموعد انتهاء ولاية الحاكم لم يكن موعداً مفاجئاً، تماماً كما لم يكن موعد انتهاء ولاية الرئيس عون مفاجئاً، ومع ذلك تصرّفت القوى السياسية حيال الاستحقاقين بالطريقة نفسها. ما ميّز موضوع الحاكم أن الرهان على التمديد ظلّ قائماً حتى اللحظة الأخيرة، لولا الرسائل الأميركية وبعض الأوروبية التي كانت واضحة في منع التمديد. لكن في المقابل، استسهلت بعض القيادات الذهاب إلى لعبة سياسية بوضع أسماء قيد التداول وتحديد موعد لجلسة مجلس الوزراء، في مناورة لم يتلقّفها المعارضون للتعيين أو حتى مؤيدوه. لكن العبرة لا تكمن في نوعية المناورة ووصولها إلى أفق مسدود، بقدر ما تضع أمام الدول التي تتحرك من أجل وضع إطار إنقاذي للبنان، مثالاً عن الخفّة التي جرت فيها معالجة هذا الملف الدقيق. فضلاً عن أن هذه القوى تعاطت مع الاستحقاق في إطار سياسي ضيق، لجهة المناورات بين التيار وحزب الله وحلفائه مقابل القوى التي أيّدت التعيين، والاستمرار في سياسة المناورة حتى اللحظة الأخيرة. كل ذلك ليس شأناً محلياً بحتاً، فالعواصم الخمس تراقب عن كثب ما يجري، ولها ألف سؤال وسؤال عن جهوزية هذه القوى لمواجهة الاستحقاقات المماثلة في ظل استمرار سياسة هروب المسؤولين في لبنان إلى الأمام، رغم كل ما يصلهم من تحذيرات.