IMLebanon

قضاة لبنان يتجهون لتصعيد كبير في حال اهمال مطالبهم

ليست المرّة الأولى التي يرفع الجسم القضائي في لبنان الصوت عاليًا، لكنّ هذه المرّة الإعتراضات هي الأكبر والأوسع والأخطر، من دون إستبعاد أن تُصبح هذه الإعتراضات عبارة عن «كرة ثلج» تكبر مع الوقت، وأن تتحوّل إلى شبه إنتفاضة قضائيّة. فما الذي يحصل على مُستوى الجسم القضائي، وما هي الأسباب التي أدّت إلى هذا التوتّر، وما هي المطالب المرفوعة، وكيف يُمكن أن ينتهي هذا الملفّ؟

بالنسبة إلى آخر التطوّرات على المُستوى القضائي، فقد وقّع ما مجموعه 352 قاضيًا عريضة مُوجّهة إلى رئيس وأعضاء مجلس القضاء الأعلى، وأعضاء مجلس شورى الدولة، ورئيس وأعضاء مجلس ديوان المُحاسبة، تُطالب بإستقلاليّة القضاء وبإلغاء سلسلة الرتب والرواتب تحت طائلة الإعتكاف الشامل، وذلك إستنادًا إلى المادة 44 من قانون القضاء العدلي والمادة 20 من الدُستور اللبناني والفقرة «هاء» من مُقدّمة الدُستور التي تنصّ على إستقلاليّة القضاء. ورأى هؤلاء القُضاة في عريضتهم أنّ بعض التشريعات المُقرّة أخيرًا أدّت إلى الإمعان في الإنتقاص من إستقلاليّة القَضاء والقُضاة والإساءة إلى مفهوم السُلطة القضائية ولاطلالة لبنان الداخليّة والدوليّة. يُذكر أنّ الجسم القضائي في لبنان يضمّ أكثر من 550 قاضيًا في المحاكم العدليّة والمدنيّة والعسكريّة، إضافة إلى نحو 100 قاضٍ في القضاء الإداري، مثل مجلس شورى الدولة وديوان المُحاسبة والتفتيش المركزي، ما يعني أنّ عدد الموقّعين على «العريضة الإعتراضيّة» يتجاوز نصف قُضاة لبنان!

وعن أبرز الأسباب التي شكّلت أخيرًا «نقطة الماء» التي أفاضت كوب إعتراضات القُضاة في لبنان، قال مصدر قضائي إنّ إعتراضات القُضاة تُقسم إلى قسمين كبيرين، أحدهما مُرتبط بحقوقهم والقسم الآخر مُرتبط بكرامتهم. وأوضح أنّه بالنسبة إلى الحُقوق فإنّ الإعتراضات هي على ما يلي:

أوّلاً: رفض سعي الدولة اللبنانيّة للمسّ بصندوق تعاضد القُضاة، حيث جاء في المادة 33 من مشروع القانون الوارد بالمرسوم رقم 10416 أنّه يُجاز للحكومة خلال مهلة سنة من تاريخ نفاذ هذا القانون وضع نظام موحّد للتقديمات الإجتماعيّة (…) يشمل جميع العاملين في القطاع العام يُطبّق في تعاونية موظّفي الدولة (…) وصناديق تعاضد القُضاة العدليّين، الأمر الذي إعتبره القضاة محاولة لضرب تمايز صندوق التعاضد الخاص بالقُضاة والذي يُشكّل ضمانة معنوية للقُضاة تريحهم من هموم تأمين تكاليف الطبابة والتعليم وغيرها، خاصة وأنّ الدولة عازمة على وقف مُساهمتها في صندوق تعاضد القُضاة، وسحب العائدات التي يقتطعها الصندوق من غرامات ورسوم الدعاوى القضائيّة، وتحديد سقف للتقديمات الطبيّة ومنح التعليم التي تُعطى للقُضاة ولأولادهم.

ثانيًا: رفض سعي الدولة لتقصير فترة العطلة القضائيّة، حيث ورد في المادة 24 من المشروع نفسه أنّه «تُحدّد العطلة القضائيّة لكل قاض بشهر من كلّ سنة» مع إلزام القُضاة بالحفاظ على حق المُناوبة لإستمرار عمل المرفق القضائي، حيث يتمسّك القُضاة بعطلتهم القضائيّة الحالية والتي تبلغ شهرين في السنة، ويعتبرون أنّ من حقّهم الحُصول على عطلة مناسبة للتعويض عن الضغوط الكثيفة التي يتعرّضون لها خلال عملهم الروتيني الكثيف والمُتواصل.

ثالثًا: رفض سعي الدولة لإنهاء تمايز القُضاة عن موظّفي القطاع العام، حيث أنّه مع الزيادات المُعتمدة في السلسلة سيُصبح أساس راتب الموظّف من الدرجة الأولى 5 ملايين و220 ألف ليرة لبنانيّة، بينما سيُصبح أساس راتب القاضي الأصيل بحدود 4 ملايين و100 ألف ليرة لبنانيّة، حيث يُصرّ القضاة على أن يكون أساس راتبهم أعلى من أساس مُطلق أي موظّف في الدولة مهما كانت رتبته حفاظًا على تمايز الجسم القضائي، ويُطالبون برفع أساس راتب القاضي الأصيل إلى 5 ملايين و330 ألف ليرة لبنانية، بالتزامن مع رفع قيمة درجة تدرّجه إلى 300 ألف ليرة لبنانية. وفي هذا السياق، يُشدّد القضاة على أنّ الإحتفاظ بإستقلاليّة القاضي، وبعدم خُضوعه لأي إبتزاز مادي، يتطلّب الإكتفاء المالي الذاتي، مُذكّرين بأنّ رواتب القُضاة كانت تُقارن في الماضي برواتب النواب والوزراء، بينما صارت اليوم تقلّ عن رواتب بعض الموظّفين، وهذا أمر غير مقبول ومرفوض.

ولفت المصدر القضائي نفسه إلى أنّ القسم الثاني الذي يعترض عليه القضاة، إلى جانب مُطالبتهم بحفظ حُقوقهم المادية والمالية المُتميّزة وحقّهم بالعطلة أيضًا، يشمل حُقوق القضاة المعنويّة وضرورة حفظ كراماتهم ورفض إستمرارهم تحت رحمة السُلطة السياسيّة. وأوضح أنّ ما حصل مع رئيس مجلس شورى الدولة المُقال القاضي شكري صادر أخيرًا، شكّل دافعًا إضافيًا لمُطالبة القُضاة بالخروج عن هيمنة السُلطة، تُضاف إلى إمتعاض شامل في الوسط القضائي من شعورهم بأنّ أيديهم مُكبّلة من قبل السُلطات السياسيّة التي تقوم بالتشكيلات القضائيّة والتي يتدخّل جزء منها لدى القُضاة في محاولة للتأثير على أحكامهم في بعض القضايا. وتابع المصدر أنّ القُضاة يعرفون أنّ خلفيّات إقالة صادر من منصبه، والتي ردّ عليها برأس مرفوع من خلال طلب إنهاء خدماته بعد 45 سنة في خدمة القضاء، تعود إلى كونه رفض مُسايرة العديد من الشخصيّات السياسيّة في قضايا مختلفة، بدءًا بملفّ مُستشفى البوار الحُكومي، مُرورًا بملفّ المشروع السياحي في الرملة البيضا، وُصولاً إلى ملفّ الإتصالات وغيرها من الملفّات، وهم يُطالبون بالتالي بوضع حدّ نهائي لهذه الشواذات من خلال تحصين إستقلاليّة القضاء ورفع يد السُلطة السياسيّة عنها بشكل واضح.

إشارة إلى أنّ القُضاة يستمرّون في الإعتكاف عن العمل منذ نحو ثلاثة أسابيع، باستثناء النظر في قضايا الموقوفين، وقد إنضمّ المحامون إلى الإمتناع عن حُضور الجلسات أمام المحاكم والدوائر القضائيّة باستثناء ما يرتبط منها بقضايا الموقوفين والمهل القانونيّة وجلسات المزاد العلني، إحتجاجًا على الضرائب التي تطالهم في القانون الجديد للضرائب. وبحسب المصدر القضائي نفسه فإنّ تجاهل مطالب القُضاة سيُؤدّي إلى إستمرارهم في الإعتكاف الذي هو الثاني من نوعه هذا العام، مع توقّع تصعيد تدريجي هذه المرّة قد يأخذ أشكالاً مُتعدّدة، بدءًا بالإعتكاف عن النظر في قضايا الموقوفين، مُرورًا بعدم التجاوب مع النيابات العامة، وُصولاً إلى الإستقالة.

وختم المصدر القضائي كلامه بالتحذير من مخاطر تجاهل مطالب السُلطة القضائيّة التي تُشكّل ثالث السُلطات الدستوريّة بعد التشريعيّة والتنفيذيّة، لأنّ ذلك سيدفع الكثير من القُضاة إلى تقديم إستقالاتهم والسفر إلى الخارج للعمل، في الوقت الذي سيلجأ الكثير من القُضاة الآخرين إلى تصعيد غير مسبوق سيؤثّر على العمل القضائي ككل، مع كل الإرتدادات السلبيّة المُتوقّعة على العديد من القطاعات نتيجة لذلك. وقد سارع وزير العدل سليم جريصاتي إلى التحرّك لامتصاص غضب القُضاة، واعدًا بتقديم إقتراح قانون معجل مُكرّر يخرج قانون صندوق التعاضد من السلسلة ويحفظ العطلة القضائية، مُحاولاً في الوقت عينه تبرير خطوة إقالة القاضي صادر وعزلها عن أي معطيات سياسيّة.