IMLebanon

الجيل اللبناني الأخير

فتح صديقي باب مكتبي من دون أن يُلاحظ انشغالي بترتيب بعض الأوراق، وبعدما استلقى على كنبة جلدية سوداء، أخذ نفساً عميقاً ومن دون أن ينظر إليّ راح يقول بصوت عال كأنه يتكلم مع نفسه: أتعلَم، هنالك شيء غريب يحدث لنا نحن الذين قرّرنا أن نبقى في لبنان، هو الشعور الدائم الذي يرافقنا منذ فترة طويلة وراح ينمو فينا في الآونة الاخيرة بأننا شعب نعيش في وطن لم يخرج يوماً من الحرب.

فكل تحليلاتنا وأحاديثنا ومفرداتنا ومشاكلنا، تؤكد هذا الشعور الغريب. والأخطر من كل ذلك، أننا في الآونة الأخيرة بتنا نستشعر أنّ ظلها يلاحقنا، وكأنّ الحرب على أبواب وطننا تقرع عليه وتحاول الدخول إلينا من كل مكان… وأمام كل حدث أمني أو اختلاف سياسي نشعر بأنها تمكنت من خلع أبوابنا.

لقد أصبح لبنان يا صديقي وطن القصص التي لا تنتهي، والأسئلة التي لا نجد لها أجوبة، والتحديات التي نفتش عنها في حال لم نصادفها على طريقنا… هو وطن ضجر من اختلافنا على تفسير الكلمات والمفردات، ومن عدم قدرتنا على تخطي الماضي والنظر الى المستقبل، وسئم من قدرتنا على تحمّل أشباه زعماء، يفرضون علينا بالحيلة او بالقوة، يقرّرون مصيرنا ومستقبل أولادنا ونحن ساكتون وراضون، وكل واحد من هؤلاء يريد أن يعيش تجربته الشخصية، فيطلبون منّا أن نستعيد اختبارات ندرك أنها فاشلة ليتنعّموا بسلطة لن تدوم وبمجد من المفروض أن يكرّسوه لخدمة الإنسان، كل الإنسان.

وأضاف ذلك الصديق الملتزم سياسياً: تصور أنني لم أعد أجد الأجوبة لتساؤلات اولادي وطموحاتهم، فأنا الذي آمن بهذا الوطن وقرّرت أن أعيش فيه وأن أؤسّس عائلة، لم استطع أن أمنع ابنتي من السفر الى اسبانيا للعمل هناك، كونها ترفض أن تمضي عمرها في بلد لم نستطع حلّ أبسط مشاكله، من النفايات التي تملأ شوارعنا وتُهدّد صحتنا وتقضي على بيئتنا، الى زحمة السير التي لا أمل لنا بالخلاص منها… اضافة الى مشكلة الكهرباء المستعصية، الى فقدان العلاقة الطبيعية بين اللبنانيين أنفسهم كونهم أضحوا مواطنين يخافون من بعضهم البعض، بدلاً من أن يتوحّدوا لمحاربة الفساد والمفسدين… والأصعب من ذلك أنني لم استطع إقناعها بتأجيل هجرتها، أو أن أعطيها وعداً بإمكانية حلّ واحدة من هذه المشاكل في المدى المنظور.

وكم كان خجلي من نفسي كبيراً حينما راحت تعدّد لي أصول الانتماء الى وطن، وكيف أنّ معظم هذه المواصفات لم تعد متوافرة لدينا. ومع كل فقرة كانت تنظر إليّ وكأنها تقول لي، أنت حرّ أن تبقى في هذا البلد ولكن لا يمكنك أن تفرض عليّ أن اعيش في هذا العذاب الذي لن ينتهي.

وبعدما أخذ صديقي نفساً عميقاً تابع: أضحينا آخر جيل نقبل أن نعيش في لبنان. أولادنا نربّيهم ونعلمهم على اساس أنهم مشاريع هجرة… والأدهى من كل ذلك أنّ نساءنا يلدن بإرادتنا في الخارج، لكي نحفظ لأولادنا الحق بمستقبل أفضل في بلاد يعيشون فيها بكرامتهم، بلاد يستطيعون أن يحلموا فيها، وأن يطوّروا آمالهم وأعمالهم، بلاد لا تُحكم بمزاجية زعيم بل بالحق والعدالة… بلاد لديها أحزاب حقيقية لا تورث فيها السلطة بحجج واهية وبعيدة من عمل المؤسسات، بلاد تعامل ناسها على أنهم مواطنون من درجة واحدة، بلاد لا تندلع فيها الحروب كل عقد من الزمن، لأنّ زعماءها يرفضون أن يجيبوا عن اسئلة بديهية تقوم عليها الاوطان.

بعد هذا الرشق الكلامي، نهض صديقي وغادر مكتبي من دون أن استطيع أن أتفوّه بكلمة… وتركني في حزني وحيرتي، أتأمّل بيروت عبر زجاج مكتبي وهي تودّع يوماً جديداً.