Site icon IMLebanon

زعماء لبنان الغالبون

فيما يندم أهل الجوار السوري والعراقي على غياب حكمهم، وإن كان جائراً، يفاجئ اللبنانيون أنفسهم والعالم بتظاهرات شبابية ضد مظاهر الفساد في حكم بلدهم، معبراً عنها بمشكلتي الكهرباء والنفايات. ثمة أمل بالنجاح في تصويب أداء الوزارات والضغط على الحاكمين لوقف تماديهم في إهمال مؤسسات عامة لصيقة بعيش الإنسان اليومي، وذلك على رغم الهاجس الدائم بارتباط «تراجيدي» بين الفساد والاستقرار، بين الاستبداد والاستقرار، نقرأه في متابعاتنا الكوارث اليومية في سورية والعراق.

عند انسحاب الجيش السوري عام 2005 تصور كثيرون أن السياسة اللبنانية ستنبعث من رمادها، لكن الحضور الإيراني عزز الحضور التقليدي العربي لجعله موازياً، فتأكد مجدداً موت السياسة واندراج الزعامات في انصياع تدربت عليه في عهد الوصاية السورية: بقيت وصاية معدّلة ومخففة، وإن تغيرت العناوين.

لكن الزعامات التي كانت تكتفي بتغليب صورتها الطائفية على صورتها الوطنية أثناء تسابقها على أبواب الوصاية السورية، عدّلت من نهجها بعد الانسحاب العسكري السوري، فعمدت إلى توسيع قاعدة الزعامة التي كانت تقتصر على المعاونين والنواب، لتضم آلافاً من المستفيدين من نفوذ الزعيم، مباشرة عبر وظائف لهم تفرض على القطاعين العام والخاص، وغير مباشرة بتغطية مخالفات يرتكبونها وتكون مالية على الأغلب. وبذلك نشهد تواطؤاً بين الزعيم والمستفيدين منه، يرسّخ نفوذه ويجعل أي تغيير ديموقراطي للزعامات والقيادات أمراً صعباً إن لم يكن مستحيلاً. الزعماء اللبنانيون يقرأون التاريخ جيداً ويعملون بذكاء على منع تكرار تجربة ستينات القرن الماضي، حين دفعت المتغيرات الثقافية وتوسيع قاعدة التعليم وامتداد سوق الاستهلاك إلى المناطق النائية، إلى تغيير ديموقراطي لمعظم النخبة الحاكمة، فانطوى معظم ما كان يسمى الإقطاع السياسي وصعدت أسماء تنتمي إلى القوى الاقتصادية الناهضة في سوق الداخل والمرتبطة بعلاقات عربية ودولية لا تخلو من مصالح متبادلة.

ونتيجة قراءة الزعماء الذكية لتاريخ بلدهم، فقد نجحوا في توسيع قاعدة زعاماتهم، حتى حين تتناقض وتتنافس، بل تتصارع، وفق اللعبة الطائفية لحكم يقوم أصلاً على الطائفية السياسية. ومن دون تحديد دقيق للأرقام يمكن القول إن قاعدة المستفيدين من الزعماء قد تصل إلى حوالى 200 ألف مواطن، يتنافسون أو يتصارعون باسم زعمائهم، لكنهم يتحدون حين تتعرض سلطة الزعماء إلى ما يحدّ منها أو يضعفها. وحين يتحدون يظهرون في مظهر الكتلة الصلبة الصماء التي تدافع عن مصالحها إذ تدافع عن مصالح الزعماء. ولا تمكن الاستهانة بهذه الكتلة الحاضرة في أحياء المدن وفي معظم البلدات والقرى، فهي قادرة على الضرب بيد من حديد وممارسة قدر من ترهيب المواطنين وتهديدهم لا تملك مثله القوى الأمنية الشرعية المرتبطة بقانون يفرض حدوداً واضحة لفرض الأمن.

لبنان ما بعد الانسحاب السوري يحكمه زعماؤه مستندين إلى كتلة بشرية صلبة وصماء، لم يجرب المواطنون سطوتها بعد، وإن كانت تظهر بملامح ناعمة حين تعرقل أي جهد إصلاحي أو أي ضغط شعبي للحد من تمادي الزعماء.

هذا ليس تيئيساً للحركات المطلبية السلمية وإنما تذكير بالمشهد الكارثي للجوار السوري والعراقي وبالقوى الاحتياطية للزعماء اللبنانية القادرة على الإيذاء بلا محاسبة لأن غطاءها من غطاء الزعماء أنفسهم.

بقي للبنانيين، كما قال أحد الأصدقاء مازحاً، أن ينتظروا ضخ النفط والغاز من شاطئ بلدهم، لينعموا بالكهرباء 24 ساعة في اليوم وليتخلصوا من النفايات مستعيدين بيئتهم النظيفة والجميلة. ذلك أن النفط والغاز، يقول الصديق، يؤمنان دخلاً غير شرعي أكثر بكثير من الدخل الحالي الممزوج بالعتمة والتلوث.