لا تجد أوساط أميركية تفسيراً لحال «الهلع» التي تطبع أراءَ نُخَبٍ سياسية وصحافية عربية وغير عربية في ضبابية المشهد الذي تتخبّط فيه السياسات الإقليمية، سوى التساؤل عن «مرجعية» تلك الهواجس التي تتحكّم في تقديراتها، سواءٌ أكانت أصولها سياسية أو إيديولوجية أو حتى طائفية.
تلفتُ تلك الأوساط إلى أنّ طبيعة عمل السياسات الأميركية، هي من الإشكاليات التي تُثير تحليلات ومخاوف عدة، تبدو معها أدوات التحليل عاجزة عن فهم منطقها.
هذا ما يثيره مثلاً كشفُ الكونغرس الأميركي تقريراً عن أساليب تعذيب مارَستها «وكالة الإستخبارات الأميركية» بشكل غير شرعي في حربها على الإرهاب. وتعتقد أنّ كشفَه في هذا التوقيت بالذات ينبغي أن لا يحجب حقيقة أنّ الظروف التي صدر فيها لا تشكّل إحراجاً بالمعنى السياسي للولايات المتحدة.
فالحرب على الإرهاب قطعَت شوطاً كبيراً في تحوّلها هاجساً دولياً، بعدما تجاوزَت إنتهاكات تنظيم «داعش» بشكل كبير ما يمكن أن يُثيرَه تقرير يتحدّث عن ممارسات ضد أفراد.
من جهة أخرى، يكشف التقرير ممارسات الـ«سي آي إي» في عهد الرئيس الجمهوري السابق جورج بوش، الأمر الذي حوّله سريعاً مادة سجالية في لعبة التوازنات الداخلية، مع ملاحظة أنّ لجنةً من الحزب الديموقراطي أعدّته، قُبيل تسلّم الجمهوريين مقاليدَ السلطة في الكونغرس بمجلسيه، الشهر المقبل.
وتعتقد تلك الأوساط أنّ إحساس النخَب العربية بضبابية الموقف الأميركي حيال ما تعيشه دوَل المنطقة، سببُه عدمُ القدرة على فهم طبيعة المصالح التي تتحرّك تحت سقفِها السياسات الأميركية، الأمرُ الذي يؤدّي الى تضخيم صورة أحداث معيّنة، بل حتى إلى وضع تصريحات في غير مكانها.
هكذا يُنظر إلى ما يعتبره البعض «تواطؤاً» أو غضّ نظر أميركي عن سياسات إيران في المنطقة، فيما يتمّ تجاهل بعض المؤشرات التي توضِح العلاقة الإشكالية القائمة بين الطرفين.
وتؤكّد الأوساط أنّ الإدارة الأميركية تنسّق جدّياً مع حلفائها، في وقتٍ تأخذ الإجراءات التي تواصل تطبيقها على الأرض طريقها للتبلور، فيما تكشف ردّات الفعل «المشاغبة» للمتضرّرين الضيقَ الذي يعانون منه.
شهادة وزير الخارجية الأميركي جون كيري أمام لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس، ومطالبتُه بعدم تقييد يد الرئيس باراك أوباما في الحرب على «داعش»، توضح بحسب تلك الأوساط أنّ الإدارة تشدّد على سياسة «النفس الطويل» في متابعة هذا الملف.
كان لافتاً في اليوم نفسِه تشديد وزير الدفاع الأميركي المستقيل تشاك هاغل من بغداد، على الثوابت التي حكَمت منذ البداية الإستجابة الأميركية لتحدّي «داعش». تشديدٌ قابَله طلب عراقي متجدّد بلسان رئيس الوزراء حيدر العبادي بزيادة حجم الضربات الجوّية ومضاعفة التسليح ليشمل كلّ المكوّنات العراقية المشاركة في قتال هذا التنظيم. وقد أثار هذا الأمر توتّراً في طهران أخذَ أشكالاً عدّة تُوِّج بالتهويل بإقامة «تحالُف» جديد على «أنقاض» التحالف الدولي القائم.
وتسأل الأوساط الأميركية هنا عن أسباب انهيار المنظومة التي بنَتها طهران في العراق وخسارة الأرض أمام تقدّم «داعش»، لو كان تحالفها القديم والمستجد يعمل جيّداً؟
وتؤكّد أنّ زيارة وزير الداخلية السعودي الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز إلى واشنطن تكتسب بُعداً إقليمياً مُهمّاً، في ظلّ ما يشهده العراق وسوريا، ومع إعلان القيادة الأميركية الوسطى عن قربِ توجّه 1500 عسكري من دوَل التحالف للمشاركة في تدريب القوات العراقية.
فالأميركيون يعملون على تعزيز خيار «العراق أوّلاً» وتثبيته، مع إدراكهم أنّ «اللعب» الروسي في الوقت الضائع في سوريا هدفُه استدراك ما يمكن استدراكُه في تعديل بعض قواعد اللعبة في هذا البلد، على رغم علمِهم بصعوبة تغيير الواقع على الأرض.
وتكشف الأوساط نفسُها أخيراً، أنّ نقاشاً سياسياً إستراتيجياً شهدَته أروقة صنع القرار الأميركي، خَلُص الى ضرورة إيلاء أهمّية خاصة للوضع اللبناني بالتعاون مع قوى عربية وغربية حليفة.
فعلى رغم مشاكلِه وأزماته وهشاشة وضعِه الأمني، أظهَر لبنان أنّه من بين أكثر البلدان تماسكاً في مواجهة الإنهيارات التي تضرب بمحيطه، معوّلين على ديناميكية يبدو أنّها نمَت في معرض تجارب هذا البلد على امتداد تاريخه الحديث.
وما حركة الموفدين الأميركيين والغربيين والإعلان الفرنسي عن قرب تطبيق الإتفاق الفرنسي – السعودي لتسليح الجيش اللبناني، إلّا إشارةٌ واضحة تصبّ في هذا الإطار، واستعدادٌ لِمَا هو متوقّع في الأيام والأشهر المقبلة.