كشف انخفاض أسعار النفط عالمياً عن الفساد والهدر والإهمال التي تعاني منها البنية التحتية لـ”منشآت نفط لبنان” في طرابلس والزهراني، إذ أظهر رصد لـ”نداء الوطن” تحوّلها من مركز إقليمي للتكرير والتخزين، إلى “خردة” ومصافٍ يأكلها الإهتراء وخزانات صدئة، تغيب عنها الدولة ولا تفكر في اقتناص فرصة الإستفادة من تراجع الأسعار العالمية والطلب وفائض العرض، في أعقاب أزمة فيروس كورونا، أسوة بتسابق الشركات المستوردة للنفط ومحطات المحروقات على كافة الأراضي اللبنانية لبناء خزانات كبيرة لتخزين المازوت والبنزين .
عوض مسارعة حكومة الأخصائيين لاغتنام الوضع وتكوين إحتياطي في منشآت نفط لبنان يسهم في تخفيف العجز في قطاع الكهرباء الذي استنزف من خزينة الدولة خلال 30 عاماً ما يقارب 40 مليار دولار وراكم العجز في الميزانية، تغرق وزارة الطاقة في “كباش فضائح” علني بين المرشّحَين الطامحين إلى رئاسة الجمهورية.
الإحتكارات أولاً
تدرس الحكومة اللبنانية بدقةٍ الخيارات المطروحة أمامها للخروج من الأزمة المالية الحادّة، إلا الحلول البديهية. وفي هذا المجال قال الدكتور غالب بو مصلح الخبير والمحلل الاقتصادي والأستاذ الجامعي والمدير السابق في المصرف المركزي اللبناني لـ”نداء الوطن” إن “السياسات التي اعتمدتها الحكومات المتتالية قلصت دور وزارة النفط في قطاع الطاقة وذلك لمصلحة الإحتكارات النفطية التي يملك بعضها كبار القادة السياسيين وملوك الطوائف في السلطة”. وأردف قائلاً “لا يعني الفساد سرقة المال العام فقط، فقبول الإستتباع فساد أيضاً، وما بُني من إحتكارات تجارية وخدماتية فساد”.
وأشار بو مصلح الى أن الوضع لم يتغير منذ أن نشر كتابه “أزمة الإقتصاد اللبناني: الواقع والحلول” الصادر في طبعته الأولى في العام 2007 والذي شرح فيه كيف “قدم العديد من الخبراء دراسات جدوى إقتصادية تظهر ربحية إنشاء مصفاة للنفط في لبنان تغطي حاجة السوق المحلية إلى المشتقات وتستطيع التصدير بأرباح مرتفعة نسبياً. ولكن هذه الدراسات تتناقض في نتائجها مع مصالح شركات النفط الإحتكارية وبالتالي بقيت مهملة وغير قابلة للنقاش من قبل السلطات اللبنانية” وأنه “منذ العام 1992 بدأت عملية خصخصة قطاع النفط وتدمير المصافي في طرابلس والزهراني وإعطاء شركات النفط الخاصة التي كان دورها محصوراً في توزيع مشتقات النفط وإدارة محطات الوقود مهمة استيراد هذه المشتقات. وكانت جميع الحكومات المتعاقبة تقريباً منذ سنة 1992 تبحث مشكلة محطات تكرير النفط وتخرج بتوصيات لمصلحة شركة النفط الخاصة وتنمية دورها وإبعاد القطاع العام من دائرة الإنتاج وحصر دوره في دائرة الرقابة متذرعين دائماً بحجتين، الأولى أنها لا تحمل الدولة العبء الإداري التشغيلي على الرغم من وجود جيش منذ الموظفين يتقاضون أجورهم من دون القيام بأي عمل، والثانية أنها تؤمن ديمومة الشركات الخاصة ولو على حساب مصلحة الخزينة ومصلحة قطاعات الإقتصاد المستهلكة لمشتقات النفط”. وتأسف للوضع الراهن الذي حرم الدولة اللبنانية من أرباحٍ تُقدّر بخمسين مليون دولار وترك حرية التحكم في السوق لكارتيل احتكاري ضخم يستفيد منه كبار الساسة في لبنان.
وتابع بو مصلح شارحاً “يبدو أن هناك حاجة لبقاء لبنان في مرتع الفساد والمحاصصة لصالح قوى اقليمية مستفيدة مما يحدث من تجازوات وسرقات وأموال مهدورة في كل الملفات وليس فقط ملف منشآت النفط” وأكمل “أما في الموضوع الذي نبحثه، فتقلصت صلاحيات وزارة النفط، التي ضمت إلى وزارة الصناعة لمراقبة وتحديد الأسعار أسبوعياً بحسب “معادلة سرية” لا يتم الكشف عنها، فهناك تحفّظ عن طريقة احتساب أو تسعير مشتقات النفط لإبقاء هوامش الربح الحقيقي والإحتكاري بمعظمه غير معروف ولتبقى التكلفة الحقيقية للمشتقات وبالتالي للقيمة الحقيقية للفاتورة النفطية غير معروفة والأسعار المعلنة للإستيراد ربما تخفي نسباً مرتفعة من العمولات والأرباح غير القانونية للشركات المستوردة”
وذكر بو مصلح أن “ما تبقى من ممتلكات مصافي النفط الصالحة لإعادة التأهيل، كانت الخزانات وخط الأنابيب الذي يربط لبنان بالسعودية في الزهراني، والخزانات والأنابيب التي تربط حقول النفط في العراق بالشاطئ اللبناني في طرابلس، كما تربط حقول انتاج النفط السوري في حمص كما بعض المنشآت التي يمكن إعادة تأهيلها ولكن مع كل ساعة تمر، يخسر لبنان حتى القدرة على إعادة التأهيل إذ يبدو أن قرار لبنان ليس بيده بل بيد المعادلات الإقليمية الراعية للمفسدين من وراء ستار”.
أرقام صادمة
يعمل حالياً في منشأة الزهراني نحو 100 موظف رسمي ويتقاضون مخصصات خيالية لا أساس لها، ويتوزعون حسب الأقسام الموجودة في المنشأة، بين المصبّ والمختبر والمصفاة والإدارة. أما المدير، رئيس لجنة ادارة منشآت النفط في طرابلس والزهراني سركيس حليس، فهو فار من العدالة بتهمة فساد ويحظى بحماية سياسية .
ووفقا لأرقام المديرية العامة للنفط، نجد أن الطاقة التخزينية في خزانات الزهراني وطرابلس تبلغ 616 ألف طن من المشتقات النفطية مع وجود طاقة تخزينية تقدر بحوالي 192 ألف طن “خارج الخدمة” فبعد أن شارك لبنان في الماضي بثروات نفط الخليج عبر خطوط الأنابيب كما عبر مصافي النفط في الزهراني وطرابلس، أدى “التوافق السياسي” ومصالح المتوافقين، إلى تعطيل استفادتنا كلياً من أهم قطاع ما جعل الأموال المهدورة تقدر بالملايين وأصبح السياسيون يستوردون لبلدنا مشتقات النفط على اختلاف أنواعها بالناقلات وبتكلفة جد مرتفعة، وأرباح إلى جيوب الصف الأول من السياسيين.
إلى ذلك، يُظهر جدول “القدرة الإستيعابية لخزانات الزهراني وطرابلس” أن هناك خزانات لا يمكن تعبئتها بالكامل في الزهراني وفروقات شاسعة بين ما يُفترض أن تستوعب الخزانات وبين قدرتها الفعلية بنسب تتراوح بين 10 و25 في طرابلس نظراً لأنها خزانات مُعمّرة قد تآكلها الصدأ وعوامل الطقس والإهمال على مدى ثلاثين عاماً، فمنشآت الزهراني أو كما يُطلق عليها منطقة “التابلاين” وخزاناتها يعود عمرها الى خمسينات القرن الماضي إذ يؤكد أحد الموظفين في المنشأة لـ”نداء الوطن” أن “الإدارة قد اتلفت بعض المنشآت الخاصة بالمصفاة بسبب تكلفة الصيانة الباهظة، فيما استمر المختبر النفطي في الزهراني بالعمل” أما آخر عملية إعادة تأهيل لبعض الخزانات القديمة فحصلت عام 2009 فور استلام الوزير السابق جبران باسيل وزارة الطاقة تجهيزاً منه لعرضها على “صفقة تطوير وتشغيل وخدمة” لم ينجح بتمريرها بخاصة بعد أحداث “جبل محسن وباب التبانة” التي هرّبت المستثمرين وفرضت عليه تسكير ما كان يمكن أن يكون “مزراب فساد جديد” حتى الصفقة المشبوهة الأخيرة التي مررها زميله في التيار الوطني الحر، الوزير سيزار أبي خليل في مطلع سنة 2019 مع شركة “روس نفط”. وتابع المصدر “ففي سنة 2009 قاموا بصيانة القاعدة والسطح والطلاء بالإضافة إلى تزويدها بخلّاطات للنفط وبأنظمة الحماية من الحريق، لكن لم تكرر العملية في السنوات التي تلت ، كما أن السعة التخزينية للبنان بالإجمال، تُعتبر صغيرة جداً وبطبيعة الحال لا يمكنها تلبية الإستهلاك الا لفترة زمنية بسيطة، وتمنعنا من الإستفادة الجدية من موقعها المتميز على البحر المتوسط لنعود كبلد كالسابق مركزاً للتكرير والتخزين كما هي الحال في البلدان المجاورة كقبرص ومالطا”. وختم “باختصار هي ثروة مهدورة بخاصة لجهة عدم استغلال المساحات الواسعة جداً للمنشأتين في تطوير البنى التحتية وزيادة عدد الخزانات أو بناء مصفاة جديدة”.
عقد “روس نفط” المشبوه
“هناك عمل جدي نقوم به في هذه الوزارة، في قطاع النفط يبدأ بالإستكشاف والتنقيب عن البترول، وينتهي بالتخزين وبإدارة سوق المشتقات النفطية” قالها الوزير السابق للطاقة سيزار أبي خليل في حكومة تصريف الأعمال حينها، يوم 25 كانون الثاني 2019 عند توقيعه عقد “تطوير وتشغيل وخدمة منشآت تخزين النفط في طرابلس” مع الشركة القبرصية “GPOB Ltd” الأوفشور، بالإنابة عن شركة “روس نفط” الروسية، وبشخص ممثلها ديديي كازيميرو الخاضع للعقوبات الأميركية والمدرج اسمه على اللائحة السوداء لمكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية، وبحضور السفير الروسي في لبنان وتوقيع ثانٍ للراعي الرسمي لصفقات الطاقة، رئيس لجنة ادارة منشآت النفط في طرابلس والزهراني سركيس حليس.
وبهذا الصدد تقول أمينة عام حزب سبعة، الإعلامية غادة عيد أنه “بالإضافة إلى ما كشفته “نداء الوطن” من ملابسات في العقد من ثغرات قانونية وطريقة تعاقد مشبوهة والتحفظ على ذكر سعر تخزين الطن في العقد، إن ما وعد به وزير تصريف الأعمال حينها من “عمل جدي” لم يترجم على أرض الواقع تماماً ككل الوعود السابقة، وكان بامكان الدولة اليوم في ظل تهاوي أسعار النفط التوجه ولو موقتاً الى بناء خزانات جديدة”
وكشفت عيد عدم البدء في انجاز الأعمال “بخاصة أن العقد المشبوه الذي تم توقيعه ينص في مرحلته الأولى على أنه وبغضون 18 شهراً، أي حتى شباط 2020، تتعهد الشركة المستثمرة ببناء 14 خزاناً بسعة 428 ألف طن وما يعادل استهلاك لبنان من المشتقات النفطية لشهرين. واليوم نحن في شهر أيار ولم يتم حتى طلاء الخزانات، والصدأ “على عينك يا تاجر” ممتد من المدخل إلى آخر شبر في المنشأة. فما بالكم بتطبيق المرحلة الثانية التي تتضمن بناء 32 خزاناً بقدرة استيعابية تقدّر بمليون طن”.